لحظات رعب عشتها على طريق امتداد محور روكسي السريع، لم تكن مجرد حادثة تصادم عابرة، بل كانت رقصة موت استغرقت ثواني، لكنها كشفت عن حقائق إنسانية تظل محفورة في وجداني. في خضم التصادم والتخبط المتكرر لسيارتي بين الحاجز الأسمنتي والرصيف، حيث فقدت السيطرة على كل شيء بالسيارة، كان هناك ما هو أعظم ينتظرني، بعد أن خرجت من هذا الحادث بمعجزة ربانية.
قبل أن تتوقف سيارتي عن الدوران من حلقات التصادم، وقبل أن أستوعب ما حدث، وجدت نفسي محاطة بما يزيد على 30 مواطنا وشرطيا، يقدمون الطمأنينة والدعم وزجاجات الماء والعصائر، المفارقة أن هذا طريق سريع لا تسير عليه غير المركبات بسرعة صاروخية، فكيف ظهر هذا التجمع البشري الذي تحول فوراً إلى فريق إنقاذ منظم؟
فتاة في أواخر العشرينيات لا أعرفها ولا تعرفني قالت لي بنبرة الأخت الحنونة: "متخفيش.. أنا معاكي ومش هسيبك". هذه العبارة البسيطة كانت بمثابة البلسم على جراح الصدمة. ورغم محاولاتي المتكررة لشكرها وحثها على الذهاب إلى عملها، إلا أنها أصرت على البقاء، وشعرت بالخجل من كم البشر الذي تجمع، وحاولت مرات عديدة أن أشكرهم طالبة منهم الرحيل حتي لا أتسبب في تأخيرهم عن أعمالهم ولكن محاولاتي باءت بالفشل.
ما حدث يفوق كونه مجرد مساعدة عابرة؛ إنه تجسيد حي لنظرية "الوعي الجمعي" التي تحدث عنها إميل دوركهايم، ففي لحظة الخطر، يذوب الأنا الفردي لينصهر في نسيج جماعي متكافل. هؤلاء الغرباء تحولوا إلى أفراد عائلة، كل منهم يبحث عن دور ليؤديه، فوجدت من أسرع لفصل الكهرباء عن السيارة خوفاً من اشتعالها، وآخر يحاول الاتصال بالونش، والآخر يجمع أجزاء السيارة المتناثرة، وسمعت أحدهم يصيح: "أهم حاجة لوحة أرقام العربية" ثم قام بالتقاطها من الأرض ووضعها داخل السيارة.
ولا يمكن أن أغفل دور رجال الشرطة في هذه الواقعة، وبالأخص الرائد عبدالرحمن زكي، الذي لم يكتفِ بدوره الرسمي، بل حاول مع الواقفين التخفيف من حالة الصدمة التي انتابتني وقتها حيث كنت أشعر أننى في كابوس، وعلى لساني كلمة واحدة "الحمد الله لم يتأذَ أحد .. لا أعلم ماذا حدث ولا كيف " وفور وصول أحد أقاربي أصر أن ينتقل بي فوراً إلى المستشفى، بل ظل واقفاً معه حوالى ساعة حتى يأتي الونش لحمل السيارة التي تدمرت تماما. هذا ليس مجرد رجل يؤدي واجبه، بل هو إنسان فهم أن الأمن الحقيقي ليس فقط في السيطرة على الطريق، بل في توفير الطمأنينة للنفوس.
هنا تبرز المفارقة العميقة التي تستحق التأمل: شعب يشكو دائماً من أوضاعه، ويتحدث عن نفسه بسلبية، ويشعر أحياناً بالدونية، لكنه في لحظة الحقيقة يتحول إلى عملاق إنساني لا يعرف الأنانية، هذه ظاهرة تستحق التحليل النفسي العميق. هل هذه السلبية الذاتية التي يمارسها المصريون مجرد آلية دفاعية نفسية ضد خيبات الأمل المتكررة؟ أم هي نوع من الحرب النفسية التي يروجها الآخر لتقليل شأن هذا الشعب العظيم المميز والذي لا يوجد له مثيل من وجهة نظري؟
وحتي لا أتهم بالتحيز المفرط، دعونا نقارن بما حدث لقريبي في ولاية كاليفورنيا، الشهر الماضي دخنت سيارته أثناء سيره في طريق عام وكان أولاده وزوجته معه. لكن المفارقة الصادمة أن السائقين والمارة كانوا يهربون بعيداً عنه، ولم يجد من يقف إلى جانبه بل تلقى مخالفة أيضا! هذه ليست إدانة للشعوب الأخرى، ولكنها إثبات أن التقدم المادي لا يعني بالضرورة تطوراً إنسانياً. في الغرب، حيث الفردية المفرطة أصبحت نمط حياة، تحول الإنسان إلى آلة منتجة، وأثناء ذلك فقد شيئاً من إنسانيته.
هذه الحادثة علمتني أن قيمة الأمم لا تقاس فقط بمعدلات النمو الاقتصادي، بل بما تختزنه نفوس أبنائها من قيم إنسانية أصيلة. الشعب المصري قد ينتقد نفسه بشدة، لكن في أعماقه كنز إنساني لا يفنى. "فيه حاجة حلوة" تلمس الوجدان، قد تنبهر بالتطور الغربي، ولكن سرعان ما يغمرك الشوق لبلدك إذا كنت في الخارج.
إنها رسالة أبعث بها إلى كل مصري تسيطر عليه نبرة السلبية.. توقف عن التقليل من شأن نفسك وشأن المصريين، فنحن نملك من الكنوز ما نفخر به أمام العالم. نعم لدينا مشاكل، لكننا نملك الروح الإنسانية المؤمنة التي تجعلنا مختلفين ومتميزين.