شرطة مائلة
في خطابه الأخير أمام الأمم المتحدة، ظهر بنيامين نتنياهو كعادته واثقًا من لغته أكثر من أي سلاح آخر؛ فالرجل الذي يحكم إسرائيل منذ سنوات طويلة لا يكتفي بإدارة السياسة والأمن، بل يدير الوعي نفسه، غير أنه كان يتحدث إلى مقاعد شاغرة.
في مقال نُشر بصحيفة «معاريف»، قدّم يائير أفيدان، رئيس اللجنة الاستشارية في مركز أريسون بجامعة رايخمان، قراءة لإسرائيل 2025 التي تعيش نسخة حيّة من رواية جورج أورويل 1984، حيث تنقلب الكلمات على معانيها لتصبح أداة حكم، فيستعير المقال من أورويل أدوات البلاغة والرمز ليبني نقدًا حادًّا لبنية السلطة، فاللغة السلطوية تجسّد ما وصفه ميشيل فوكو بأن الخطاب نفسه هو شكل من أشكال السلطة.
وصف أورويل عالمًا تخضع فيه العقول للسيطرة عبر اللغة، ورفع النظام ثلاث شعارات متناقضة: "الحرب هي السلام"، "العبودية هي الحرية"، "الجهل هو القوة"، لم تُخلق هذه الشعارات لتضليل الجماهير فقط، بل لتقويض منطقهم وإعادة تربية عقولهم على تصديق اللامعقول، من يملك اللغة يملك الواقع، ومن يسيطر على الخطاب يسيطر على الوعي.
وفي إسرائيل 2025، بعد هيمنة طويلة لليكود بزعامة نتنياهو، يصعب تجاهل الشبه بعالم أورويل، تعيش إسرائيل منذ قيامها صراعًا لا ينتهي، لكنّه يُقدَّم للرأي العام لا كإخفاق سياسي بل كعلامة قوة وثبات، وبينما يدفع الإسرائيليون الثمن من أرواحهم واقتصادهم، تروّج السلطة لـ"وحدة وطنية" تُبنى حول خطر دائم من إيران وحزب الله والحوثيين والفلسطينيين، وغيرهم، فيبتعد السلام وتبقى الحرب مغلفة بالشعارات.
أما "العبودية هي الحرية"؛ فتتجلى في نظام لا مساواة واضح؛ الخدمة العسكرية إلزامية للإسرائيليين بينما يُعفى الحريديم بحجة دراسة التوراة، ويتمتعون بإعفاءات وضمانات، ومع ذلك يتحكمون في مصير الدولة العبرية، و"الجهل هو القوة" يظهر في طوفان الأخبار الكاذبة من منابر إعلامية موالية لنتنياهو وزمرته، والهجوم على المحكمة العليا، يدرك نتنياهو أن الإسرائيلي كلما عجز عن التمييز بين الحقيقة والكذب، صار تابعًا له كمصدر وحيد للمعرفة، فيتحوّل الجهل إلى مصدر لقوته الشخصية.
عندما يعلن بيبي أنه "يدافع عن الديمقراطية" بينما يُضعف القضاء للهروب من قضايا فساده، فإنه يستخدم اللغة على الطريقة الأورويلية؛ يتحدث عن "المسؤولية الوطنية" ليتنصل من المسؤولية الشخصية، ويغطي بالكلمات فراغًا أخلاقيًا، هذه الحالة هي ما سماها أورويل "الوعي المزدوج"، وتتمثل في الإيمان بحقيقتين متناقضتين في آن واحد، يعيش الإسرائيليون تحت الحرب ويسمونها سلامًا، يخضعون للقيود ويسمونها حرية، يسبحون في الجهل ويسمونه معرفة.
يخلص أفيدان إلى أن السلام ليس حربًا دائمة بل أمنًا حقيقيًا وتعايشًا إنسانيًا، والحرية ليست امتيازًا لفئة بل مساواة في الواجبات والحقوق، والمعرفة ليست سيلًا من المعلومات بل تربية نقدية وصحافة حرة وشفافية في الحكم. ولتحقيق ذلك لا بد من قيادة جديدة، بدلا من بنيامين نتنياهو، لا تستخدم اللغة للحكم، بل لخدمة الحقيقة.
محمد عبد الدايم هندام، كاتب وشاعر، صحفي حر، أكاديمي، مُحاضر الأدب العبري الحديث والدراسات الإسرائيلية، كلية الآداب، جامعة المنصورة، مصر
https://www.facebook.com/MoHendam
https://x.com/MoHendam
[email protected]