أشرف مروان.. "الملاك" الذي فضح إسرائيل
على مدى 50 عاما قالوا عنه: إنه ملاكهم، وإنه جاسوسهم الذي زرعوه في قصر رئاسة مصر، وإنه قدم لتل أبيب أعظم الخدمات، وإنه أنقذ الجيش الإسرائيلي في حرب 1973، وإنه باع وطنه مصر مقابل دولارات دفعتها له إسرائيل ..
وتمادوا في مكايدتهم فراحوا يتغنون بأعماله الجليلة التي قدمها للموساد، ولدولة إسرائيل، ثم انتجوا فيلما سينمائيا قالوا إنه قصة حقيقية لأعظم جاسوس في تاريخ إسرائيل: الملاك أشرف مروان.
وبعد نصف قرن غيروا كلامهم إلى النقيض، فقالوا إنه لم يكن ملاكهم بل شيطانهم وأنه كان خنجرا مصريا في قلب إسرائيل، وفي مؤخرتها أيضا! ..
هذه باختصار هي حكاية إسرائيل مع أشرف مروان، ولكن ليست هذه هي كل الحكاية، وليست هذه هي كل الخفايا، وليست هذه هي ختام الأحداث، بل بداية لحكاية أخطر وأعمق..
بدأت روايات إسرائيل عن "أشرف مروان" كانت في شكل حكايات غامضة وعبارات تخفي أكثر مما تكشف عن شخصية أسطورية قدمت لإسرائيل خدمات عظيمة خلال حربها مع مصر في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
هذه الحكايات الغامضة جاءت في مذكرات عدد من قادة إسرائيل الذين شاركوا في حرب أكتوبر، بدءا من مذكرات موشيه ديان (وزير الدفاع الإسرائيلي خلال الفترة 1967-1974) الصادرة عام 1976، ثم مذكرات جولدا مائير (رئيسة وزراء إسرائيل في الفترة 1969-1974) الصادرة عام 1980، ومذكرات إيلي زعيرا (رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية أعوام 1972و1973 و1974)، والتي صدرت في تسعينيات القرن الماضي.. وثلاثتهم تحدثوا عن جاسوس غامض قدم لإسرائيل خدمات جليلة أنقذت الجيش الإسرائيلي في حرب أكتوبر، واكتفوا باطلاق اسم حركي فقالوا إنه العميل "بابل" أو "الصهر" أو "الملاك"، ولكن أحدا منهم لم يكشف عن اسم هذا الجاسوس.
وفي عام 2002 نشر المؤرخ اليهودي المقيم في لندن «أهارون بيرجمان» كتابا بعنوان «تاريخ إسرائيل» أشار فيه إلى أن العميل "الملاك" - دون ذكر اسمه الحقيقي - عمل جاسوسا للموساد الإسرائيلي، وأنه ذهب بنفسه للسفارة الإسرائيلية في لندن عام 1968 عارضا خدماته على الموساد، وأنهم كانوا يدفعون له 100 ألف جنيه إسترليني عن المقابلة الواحدة، وأنه نقل لهم اجتماعات عبدالناصر والسادات مع السوفيت، ونقل لرئيس الموساد موعد حرب أكتوبر يوم 5 أكتوبر 1973 في لندن.
وظل اسم هذا العميل الأسطوري محاطا بالسرية، وكان الحديث عنه قاصرا على مجرد تلميحات وغمز ولمز، حتى جاء عام 2004، أي قبل 21 عاما بالتمام والكمال، فوقتها أعلن الباحث الإسرائيلي أهارون بيرجمان، ولأول مرة اسم العميل الأسطوري الذي ظل محاطا بالسرية الكاملة لعدة عقود، فقال نقلا عن إيلي زعيرا- رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية خلال حرب أكتوبر 1973، إن العميل "بابل" و"الصهر" و"الملاك" هو شخص واحد وهو "أشرف مروان" صهر الرئيس جمال عبدالناصر، ومستشار الرئيس السادات، وساعتها قامت الدنيا ولم تقعد، واندلعت حرب كلامية بين وسائل إعلام مصرية ونظيرتها الإسرائيلية، ما بين نفي الحكاية ورفضها، وبين تأكيدها والدفاع عنها.
وفي المقابل التزمت الصمت كل المؤسسات الرسمية في مصر وإسرائيل، وبقي الأمر مجرد روايات يتداولها صحفيون وباحثون هنا وهناك.
وبينما الحرب الكلامية بين الإعلام المصري والإسرائيلي، لم تخمد نارها، سقط أشرف مروان من شرفة منزله الفخم في لندن في عام 2007 وقالت الشرطة البريطانية إن الحادث مريب، بينما تحدثت الصحف عن "اغتيال مدبر" وأخيرا قيدت القضية ضد مجهول!..
وهكذا مات أشرف مروان- فجأة - وكانت وفاته حدثا استغلته كل وسائل الإعلام الإسرائيلية وراحت تؤكد صباح مساء أن مروان كان جاسوسها المخلص الذي زرعته في قصر الرئاسة المصري في الستينات والسبعينات، وأنه قدم لإسرائيل خدمات جليلة تضعه على قمة عملاء إسرائيل المخلصين.
ولكن المفاجأة الأكبر جاءت هذه المرة من القاهرة، التي أحاطت جثمان أشرف مروان بالعلم المصري، وشيعته في جنازة عسكرية مهيبة شارك فيها كل كبار رجال الدولة، وجمال نجل رئيس مصر وقتها - حسني مبارك -، وكانت هذه الجنازة رسالة رسمية صامتة من القاهرة، مفادها أن أشرف مروان قدم لمصر خدمات جليلة، فلا تقام جنازات عسكرية إلا لمن قدم لمصر خدمات جليلة، وهو ما قاله الرئيس حسني مبارك وقتها بشكل صريح مؤكدا أن أشرف مروان كان وطنيا مخلصا، وأنه قام بالعديد من الأعمال الوطنية التي لم يحن الوقت للكشف عنها.
ولكن الجنازة العسكرية في مصر وتصريح رئيس مصر، لم يوقفا الآلة الإعلامية الإسرائيلية التي ظلت تتفاخر بأن أشرف مروان كان جاسوسها المخلص، وأنه حتى لو كان جاسوسا مزدوجا (يعمل لصالح مصر وإسرائيل في ذات الوقت) فإنه كان أكثر إخلاصا لإسرائيل، وحتى يرسخوا ذلك، أصدر الإسرائيلي يوري بار جوزيف، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة حيفا، كتابا عام 2016 بعنوان "الملاك.. الجاسوس الذي أنقذ إسرائيل" أردد فيه نفس الكلام الذي قالته القيادات الإسرائيلية من قبل وهو : أن أشرف مروان كان جاسوسا أسطوريا قدم لإسرائيل خدمات جليلة وأنه أنقذها في حرب 1973، وتحول الكتاب إلى فيلم سينمائي عام 2018 يحمل اسم "الملاك"، وكانت الرسالة الوحيدة التي حملها الفيلم وأراد أن يرسخها ويؤكد عليها هو أن "مروان" كان جاسوسا إسرائيليا قدم خدمات جليلة لإسرائيل، وتم بث الفيلم على موقع "نتفليكس" على شبكة الإنترنت، ليكون متاحا لكل من يرغب في مشاهدته في أي مكان بالعالم.
ولم يكتف الإسرائيليون بذلك فقبل عامين كاملين من الآن وفي سبتمبر 2023 نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية وثائق وصفتها بأنها "تاريخية"، تكشف لأول مرة صورتين تدعي أنهما لأشرف مروان، زوج ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، خلال لقاء له مع الضابط المسؤول عنه في الموساد - حسب الصحيفة - واسمه "دوبي". وبالتزامن مع ذلك، وعلى نحو استثنائي، نشر الموساد كتابا يتطرق جزئيا لحرب أكتوبر 1973 تحت عنوان "ذات يوم، حين يكون البوح مسموحا"، أعدته إحدى الباحثات في قسم التاريخ في الموساد، وهو الكتاب الذي وصف بأنه أول كتاب يصدر عن الموساد رسميا، وضم الكتاب وثيقتين: الأولى، هي وثيقة يعود تاريخها إلى الخامس من أكتوبر 1973، وتوثق طلب مروان مقابلة رئيس الموساد، في ذلك الوقت، تسفي زامير، بشكل عاجل، عشية الحرب. وجاء في هذه الوثيقة: "اتصل (مروان) في الساعة 9:30 مساء يوم الخميس (في الرابع من أكتوبر) هاتفيا، وقال إنه سيصل غدا الجمعة، مساء الخامس من أكتوبر، لعقد لقاء، سيقدم خلاله معلومات ذات أهمية كبيرة، وسأل عما إذا كان من الممكن أن يشارك تسفي زامير، رئيس الموساد، في اللقاء، لأهمية الموضوع، وألمح إلى أن المعلومات التي سيقدمها تخص... (هذا الجزء من الوثيقة لا يزال محظورا) وهي بحوزته".
أما الوثيقة الثانية، فهي عبارة عن بروتوكول والنص الكامل لمحضر الاجتماع الذي عُقد في لندن في 5 أكتوبر 1973، بين رئيس الموساد حينها (زامير) ومروان، والذي تم فيه التحذير من اندلاع الحرب قبل 16 ساعة من نشوبها.
وهكذا لم تتوقف إسرائيل قيادة وإعلاما وموسادا وجهات بحثية عن التأكيد بأن أشرف مروان جاسوس إسرائيلي، بينما التزمت مصر الرسمية الصمت ولم تعلق على الأمر، اللهم إلا بجنازة عسكرية للرجل وتصريح مقتضب لرئيس الجمهورية عنه صدر قبل 18 عاما.
وتصور الكثيرون أن الأمر انتهى عند هذا الحد وأن التاريخ أغلق صفحاته بعد أن دون فيها أن أشرف مروان جاسوس إسرائيلي، حتى جاءت المفاجأة من قلب إسرائيل، ومن نفس الصحيفة التي نشرت وثائق الموساد بأن " مروان" كان جاسوسها المخلص لإسرائيل ، وهي صحيفة "يديعوت أحرونوت" !
فمؤخرا نشرت "يديعوت أحرونوت" تحقيقا صحفيا استند إلى تقارير استخباراتية غير منشورة، تؤكد أن أشرف مروان لم يكن جاسوسا لإسرائيل ولكنه كان جاسوسا علىها ـ وأنه أرسل إنذارات كاذبة إلى إسرائيل قبل الهجوم المفاجئ في أكتوبر 1973، وأنه كان "رأس حربة عملية خداع مصرية متطورة" أربكت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وأفقدتها صوابها في الفترة التي سبقت الحرب، وأنه كان يعمل لصالح مصر طوال الوقت.
وأكدت الصحيفة الإسرائيلية أن مروان قدم تقارير مضللة أشارت إلى تواريخ مختلفة وتقييمات مفادها أن الحرب لن تندلع، حتى التحذير الذي نقله عشية الحرب جاء غامضا ومتأخرا جدا، ونقلت الصحيفة عن الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية شلومو غازيت، قوله في تصريحات نشرت فقط بعد وفاته: "زرع مروان في العمق داخل الاستخبارات الإسرائيلية، واستدرج رئيس الموساد زامير كالأبله وتلاعب به كما أراد، وكان الترس المركزي في خطة الخداع المصرية قبيل حرب أكتوبر 1973".
نفس المعنى اعترفت به القناة السابعة بالتلفزيون الإسرائيلي، وقال كل من استضافتهم من خبراء إسرائيليين إن أشرف مروان كان خنجرا مصريا في قلب إسرائيل..
أخيرا اعترفت اسرائيل بما كانت تخفيه ، وما كانت تدعي عكسه !
ربما كان السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا كشف الإعلام الإسرائيلي هذا الأمر حاليا؟ ولماذا فضح مؤسساته الأمنية في هذا التوقيت بالذات؟ .. والإجابة بحسب المحللين هو أن الأمر لا يخرج عن إطار كونه تصفية حسابات داخلية بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
وأيا كان السبب يبقى ما اعترفت به إسرائيل مؤخرا، ليس فقط دليلا على أن أشرف مروان كان أحد أفضل العمليات الناجحة للمخابرات المصرية التي نجحت في أن تزرع رجلا لها في قلب إسرائيل، ولكن ذات الاعتراف يكشف أيضا أن كل قادة إسرائيل من جولدا مائير وموشيه ديان وحتى الآن .. كلهم كاذبون، وأنهم لا يتوقفون أبدا عن الكذب، وأن إسرائيل دولة قائمة على الكذب والتضليل.