في عصرٍ تتسارع فيه التحولات التكنولوجية بوتيرة تكاد تسبق إدراك الإنسان، لم يعد الإدمان محصورًا في أشكاله التقليدية، بل تتسلّل إلينا أنواع جديدة من المخدرات لا تُرى بالعين ولا تُشمّ بالرائحة، بل تتخفّى في ترددات صوتية تُبث عبر الأثير الرقمي لتخترق الوعي مباشرة. إنّها المخدرات الرقمية، والمعروفة أيضًا باسم "الموسيقى المؤثرة على الدماغ" أو "النغمات المخدرة"، وهي عبارة عن ملفات صوتية، وغالبًا ما تكون بصيغة MP3 أو غيرها من التنسيقات الرقمية، ويُزعم المروجين لها بأنها قادرة على تغيير الحالة الذهنية للمستمع بطريقة مماثلة لتأثير المخدرات التقليدية، بحيث تعتمد هذه الملفات الصوتية على تقنية تسمى "الإيقاعات بكلتا الأذنين" (Binaural Beats)، حيث يتم تشغيل ترددات مختلفة قليلاً في كل أذن، مما يخلق وهمًا بتردد ثالث داخل الدماغ، ما ويجب التأكيد عليه هي أنها ليست بديلًا بريئًا، بل مدخلًا مُقنّعًا إلى دوامة إدمان جديدة، لا تُخدّر الجسد فقط بل تُعيد تشكيل وعي الإنسان نفسه.
حيث يزعم مروجو هذه الملفات الصوتية أن هذه الترددات يمكن أن تحفز حالات ذهنية مختلفة، مثل: الاسترخاء، والتركيز، وحتى النشوة، مما يجعلها بديلًا جذابًا للمخدرات التقليدية، خاصة بين الشباب. ومع ذلك، فإن الأدلة العلمية التي تدعم هذه الادعاءات محدودة للغاية، ولا يوجد إجماع علمي حول فعالية المخدرات الرقمية.
وفي هذا الإطار كشف تقرير Global Drug Survey (GDS) الصادر عن كلية الطب بجامعة كوينزلاند- وهو أكبر مسح سنوي عالمي حول أنماط تعاطي المخدرات – في تقريره لعام 2021 أن المخدرات الرقمية (binaural beats) باتت تمثل ظاهرة تستقطب فئة كبيرة من الشباب حول العالم، حيث أقر 5.3% من أصل 30,896 مشاركًا بأنهم استمعوا للترددات التي تصنف على أنها مخدرات رقمية بغرض الوصول لحالات ذهنية وُصفت بأنها "مُغيّرة للوعي"، وأوضح التقرير أن أكثر المستخدمين تركزوا في الولايات المتحدة والمكسيك والبرازيل وبولندا ورومانيا والمملكة المتحدة، في حين جاءت أستراليا في المرتبة 11 عالميًا.
احتمالية استخدام المخدرات الرقمية وفقا لتقرير Global Drug Survey (GDS)
كذلك نجد أنه بحسب تقرير Social Media Addiction Statistics 2025 تم تقدير عدد الأشخاص المدمنين لوسائل التواصل الاجتماعي حول العالم بحوالي 210 ملايين نسمة، من بين هؤلاء، حوالي 33.19 مليون أمريكي يُشكّلون نحو 10٪ من سكان الولايات المتحدة، فيما تبيَّن أن شريحة الشباب هي الأكثر تضرّراً؛ فحوالي 82٪ من الجيل Z يعترفون بشعورهم بإدمان هذه المنصات، و 36٪ من المراهقين يقولون إن استخدامهم لوسائل التواصل صار مفرطاً لدرجة تؤثر سلباً على حالتهم النفسية مثل القلق والتوتر، كذلك لوحظ أن الأفراد الذين يقضون أكثر من ثلاث ساعات يومياً متصلين بالإنترنت هم الأكثر عرضة للشعور بالضغط النفسي والإصابة بالاكتئاب.
** الخطر يقترب منا:
وفي العالم العربي بدأت بعض الأصوات الأكاديمية تدق ناقوس الخطر حول ظاهرة المخدرات الرقمية؛ ففي دولة الإمارات على سبيل المثال، تناولت دراسة حديثة للباحثتان خولة التخيّنة، وسناء عاشور (2024) بعنوان "Exploring the Impact and Prevention of Digital Drugs: Insights from the Emirati Youth Perspective " تجربة الشباب الجامعي مع الأصوات التي تنتدرج تحت مسمى المخدرات الرقمية، وكشفت أن الاستخدام المفرط لهذا النوع من الموسيقي قد يفاقم عدة مشكلات لدى الشباب، مثل: الاكتئاب وضعف الذاكرة، مشيرين إلى أن الفئة الأكثر تعرضًا للخطر كانت من بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و22 عامًا. ومن الخليج أيضًا، برزت دراسة أجريت في جامعة السلطان قابوس بسلطنة عُمان للباحثة نوال شعراوي وأخرون (2023)، بعنوان: " "The Level of Cognitive Awareness of Digital Drugs Among Students of Sultan Qaboos University " والتي تم تطبيقها على 673 طالبًا وطالبة، لتظهر أن مستوى الوعي بالمخدرات الرقمية لا يزال متوسطًا، وأن غياب برامج التوعية المنظمة يترك الباب مفتوحًا أمام انتشارها في أوساط الطلبة.
وفي مصر، ظهرت خلال السنوات الأخيرة ثلاث دراسات بارزة تسلط الضوء على وعي الشباب الجامعي والممارسين الصحيين بظاهرة المخدرات الرقمية. فقد أجرت دراسة بعنوان "Evaluating Nursing Students’ Cognitive Awareness of Digital Drugs among Nursing Students" (2021) على عينة من 250 طالب تمريض، وكشفت أن أكثر من نصف الطلاب (53.2٪) لديهم مستوى وعي متوسط، فيما اقتصر الباقي على وعي منخفض، ما يعكس خطورة الفجوة المعرفية لدى فئة يُفترض أن تكون على تماس مباشر مع المخاطر الصحية. وفي سياق موازٍ، ركزت دراسة بعنوان "Effect of Digital Drugs Educational Program on Nursing Students’ Knowledge and Attitudes at Benha University" (2022)، على سياق التثقيف ودوره في حماية الشباب من هذه الظاهرة؛ حيث أوضحت النتائج أن تطبيق برنامج تعليمي متخصص أدى إلى تحسن ملموس في معارف الطلاب ومواقفهم تجاه هذه الظاهرة، وهو ما يبرز أهمية إدماج برامج التوعية في المناهج الجامعية. فيما تم إجراء دراسة موسعة بعنوان "وعى طلاب الجامعات المصرية بمخاطر المخدرات الإلكترونية ومقترحات تربوية للتغلب عليها" والتي شملت 916 طالبًا من ست جامعات مصرية، وأظهرت أن الوعي العام لا يزال منخفضًا، مع فروق واضحة تبعًا للمستوى الاقتصادي والفرقة الأكاديمية، مما يعكس الحاجة إلى تدخل تربوي منظم وموجه.
وفي ضوء هذه المعطيات السابقة، وعلى الرغم من كون الأبحاث في هذا السياق لا تزال في تطور الظهور، غير أن هناك مؤشرات على أن الاستخدام المفرط للأصوات القوية والترددات المُغيّرة يمكن أن يترافق مع اضطرابات في النوم، والاصابة بالقلق، وربما الاكتئاب، وتراجع الأداء الدراسي أو المهني. كما أن جذور المخدرات الرقمية ترتبط في كثير من الأحيان بالعزلة الاجتماعية، أو الرغبة في الهروب من الواقع، مما قد يُسهّل الانزلاق إلى استخدام المخدرات المادية أو التداخل معها.
وهنا يجب التأكيد على أهمية التدخل للوقاية من هذا الخطر الذي يتربص بأبنائنا عن طريق:
القيام بحملات توعية شاملة عبر وسائل الإعلام وفي المدارس والجامعات والتي تركز على مفهوم المخدرات الرقمية وأساليب الاستخدام الآمن للتكنولوجيا.
تدريب المعلمين والأخصائيين النفسيين وأساتذة الجامعات ليكونوا قادرين على معرفة العلامات المُبكرة للاستخدام المفرط للتكنولوجيا ومخاطره المحتملة، وتدريبهم على أساليب التدخل للنصح والإرشاد.
تشجيع البحث المحلي لتقيّم مدى انتشار المخدرات الرقمية، ورصد التأثيرات النفسية والجسدية المترتبة عنها خاصة بين جيل ألفا وزد.
مراقبة المحتوى الذي يُروّج لهذه التطبيقات والمقاطع الصوتية، وإصدار تنبيهات بشأنها، أو الإبلاغ عنها.
الدعم العلاجي والاستشاري لمن يشعر بأن استخدامه لهذه الأصوات قد تطوَّر إلى إشكالية تؤثر على الأداء أو الصحة النفسية.
وفي النهاية ما يجب التأكيد عليه هو أن المخدرات الرقمية ليست وهْمًا؛ هي ظاهرة حقيقية تدقّ أبواب العقول من خلف الشاشات التي أصبحت ملازمة لنا أو عبر الترددات الصوتية التي نستمع إليها بوعي أو بدون وعي، ومن ثم فإن تجاهل هذه الظاهرة اليوم قد يُكلّف الشعوب غدًا أرواحًا، ومستقبلًا ضائعًا بين الضوء الأزرق والهمس الصوتي. لذلك فالتوعية، والبحث العلمي، سلاحين لا مفر منهما لمواجهة هذه الظاهرة، بحيث نجعل من المستحدثات الرقمية خيارًا للارتقاء لا للغرق، ومن الأثير فرصة للتعلم والتطور لا للهرب من الواقع والوقوع في مصيدة إدمان جديدة.