رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

الزاد

الإعلام لم يعد ترفًا فى حياة المجتمعات، ولا مجرد وسيلة للخبر أو الترفيه. إنه اليوم أحد أهم عناصر تشكيل الوعى وصناعة المستقبل. فالكلمة التى تُقال على شاشة، أو تُكتب فى صحيفة، أو تنتشر على منصة رقمية، قادرة على أن تحرك الرأى العام، وتغير اتجاهاته، وتفتح مسارات جديدة للفكر والسياسة والثقافة.

لكن الأزمة فى واقعنا العربى أن الإعلام، فى كثير من الأحيان، فقد جوهر رسالته. بدل أن يكون قوة اقتراح وتنوير وإبداع، صار تابعًا للأحداث، أسيرًا لدوائر التكرار، يعيش على إعادة إنتاج نفسه حتى الملل. وهنا يطرح السؤال نفسه، هل نحن أمام إعلام يصنع الحدث، أم أمام مرآة باهتة تعكس ما يحدث؟

هذه السلسلة من الأفكار التى أطرحها، تأتى محاولة للإجابة عن هذا السؤال الكبير. أفكار تكشف مظاهر الجمود، وتفضح حالة «التحنيط» التى يعيشها جزء من إعلامنا، لكنها أيضا تبحث عن الأفق الجديد الممكن. كيف يمكن أن نعيد تعريف الإعلام ليكون قوة صانعة، لا مجرد تابع؟ وكيف نستعيد دوره فى زمن تغيّر فيه الجمهور، وتغيرت معه أدوات الاتصال ومفاهيم التأثير؟

خمس قضايا هى أصل المشكلة والحكاية، نطرحها كرؤية نقدية متكاملة، قد تكون صادمة للبعض، لكنها دعوة صريحة إلى إعادة التفكير، وإلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل أن يطوى الزمن إعلامًا اختار أن يعيش فى الماضى.

(1)

الإعلام فى الأصل ليس آلة تسجيل، ولا دفتر وقائع أو أحوال، ولا مجرد ناقل لأخبار تفرضها عليه الأحداث. الإعلام وُجد ليكون قوة اقتراح، وذراعًا للتنوير، وصوتًا قادرًا على صياغة الوعى الجمعى وصناعة المستقبل.

لكن حين يكرر الإعلام نفسه، ويعيد استخدام نفس الأساليب والأصوات والموضوعات، يقع فى مطب الكلاسيكيات. يصبح عاجزًا عن ملاحقة التطور، فاقدًا لحس الابتكار، متوقفًا عند حدود «النقل» دون أن يجرؤ على «الخلق».

الفرق بين إعلام صانع للحدث وآخر تابع له هو كالفرق بين من يكتب التاريخ ومن يقرأه. الإعلام الصانع يحدد اتجاه الرأى العام، يفتح نوافذ جديدة، ويُربك من يكتفى بالثبات. أما الإعلام التابع فيتحول إلى ظل باهت، دوره محكوم بغيره، وصوته مجرد تكرار.

نحن فى العالم العربى ارتكبنا خطأ فادحًا حين جعلنا الإعلام مجرد «مواكب» للحركة الثقافية والاجتماعية، لا محركًا لها. والنتيجة، إعلام يلهث خلف المجتمع بدل أن يقوده، ويبرر واقعه بدل أن يغيّره.

لو نظرنا بصدق إلى واقع الإعلام المصرى، لوجدنا أنه فقد جوهر مهمته. فبدل أن يكون قوة اقتراح وصناعة وابتكار، اكتفى بدور «المروّج» لحدث صنعه آخرون.

تكرار الوجوه نفسها، الخطاب نفسه، القوالب نفسها.. جعل الإعلام يعيش حالة جمود تشبه «التحنيط». والنتيجة، إعلام فقد قدرته على إبهار جمهوره، وأصبح يطرد الناس من شاشاته إلى فضاءات أكثر جرأة وحرية.

المشكلة ليست فى الأدوات. التكنولوجيا متاحة، المنصات مفتوحة، والفرص أكبر من أى وقت مضى. لكن المشكلة الحقيقية فى العقلية التى ما زالت ترى الإعلام تابعًا للحركة الثقافية والاجتماعية، بينما الأصل أن يكون هو من يشعل الشرارة.

الإعلام إن لم يقرأ المستقبل، ويطرح أسئلة غير متوقعة، ويبحث عن أفق جديد، فلن يختلف عن أى أرشيف يُحفظ فى خزائن الماضى.

(2)

اليوم، نحن أمام مفترق طرق حاسم، إما أن نعيد تعريف الإعلام باعتباره قوة صناعة وتوجيه، أو نستمر فى الدوران داخل الدائرة المفرغة.

لا معنى لإعلام يكرر نفسه، أو يزين الأخطاء. ولا جدوى من إعلام يكتفى بأن يكون شاهدًا على الحدث، بينما المطلوب أن يكون مشاركًا فى صناعته.

لقد أصبح الجمهور أكثر وعيًا مما نظن، وصار يعرف أن الإعلام الذى لا يجرؤ على التجديد، ولا يفتح آفاقًا مختلفة، هو إعلام فقد بوصلة التجديد.

وإن لم يتحول الإعلام المصرى إلى مساحة حقيقية للنقاش والإبداع، فسيتجاوزه الزمن بلا رجعة. التاريخ لا يرحم من يقف فى منتصف الطريق، ولا يغفر لمن يكرر نفسه حتى يملّه الجمهور.

(3)

أكبر خطأ ترتكبه مؤسسات الإعلام عندنا اليوم هو أنها ما زالت تتعامل مع الجمهور وكأنه هو ذاته جمهور الأمس. بينما الحقيقة أن الجمهور تغيّر جذريًا، وبات أكثر وعيًا وتحررًا وقدرة على المقارنة والاختيار.

الجمهور لم يعد ينتظر الخبر من الفضائيات أو صفحات الجريدة، بل يصنع الخبر بنفسه عبر منصاته الرقمية. لم يعد مستهلكًا سلبيًا، بل منتجًا للمحتوى، وفاعلًا فى صياغة النقاش العام. وهنا وقعت المؤسسات الإعلامية فى الفجوة فهى ما زالت تبث بنفس القوالب القديمة، وتتصرف وكأنها تحتكر المعلومة، بينما الناس تجاوزوها بمراحل.

لقد أصبحت المصداقية اليوم أهم من السبق. أصبح الجمهور يبحث عن من يفسر له الحدث ويضعه فى سياقه، لا من ينقل له خبرًا يعرفه مسبقًا عبر هاتفه. أصبح يسأل: «ماذا وراء الخبر؟» أكثر مما يسأل: «ماذا حدث؟».

لكن الإعلام العربى، فى غالبه، لم يدرك هذا التحول. ما زال يكرر نفسه، يلهث وراء «الترند» بدل أن يصنعه، ويعيد تدوير نفس الخطاب فى مواجهة جمهور صار يمتلك قدرة هائلة على التمييز بين الجاد والزائف، وبين الإعلام الحر والإعلام الموجه.

النتيجة الطبيعية أن الناس هجرت الشاشات إلى فضاءات أخرى أكثر جرأة وحرية وتنوعًا. وهذا ليس لأن الجمهور تغيّر فقط، بل لأن الإعلام لم يتغيّر. ظل سجينًا لأساليبه القديمة، فترك مساحته لغيره كى يحتلها.

الخطر هنا أن الإعلام إذا لم يجرؤ على إعادة تعريف نفسه، ومواكبة عقلية الجمهور الجديد، فإنه يفقد دوره الأساسى فى صناعة الوعى. سيظل مجرد صدى باهت لصوت لم يعد أحد يسمعه.

(4)

نحن أمام لحظة فارقة فى مسيرة الإعلام العربى، إما أن نمتلك الجرأة لنصنع مستقبلًا مختلفًا، أو نستسلم للجمود فنغيب عن المشهد. فلا مكان بعد اليوم لإعلام متردد، ولا عذر لمن يكرر نفسه حتى الملل.

الإعلام فى جوهره قوة اقتراح وتغيير، لا أداة تزيين ولا وسيلة ترويج. ومجتمع اليوم، المتصل بالعالم لحظة بلحظة، لم يعد يقبل إعلامًا بلا موقف أو رؤية. أصبح الجمهور يريد إعلامًا يفتح آفاقًا جديدة، يجرؤ على كسر الصمت، ويواجه التابوهات التى تعطل التفكير.

إعلام المستقبل ليس فى الأدوات وحدها، فالتكنولوجيا متاحة للجميع، بل فى الجرأة على استخدام هذه الأدوات بوعى وإبداع. الجرأة على كشف الحقائق، على محاسبة الذات قبل محاسبة الآخرين، وعلى صناعة محتوى لا يخاف من النقد ولا يهرب من الأسئلة الصعبة.

أما الإعلام الذى يصر على البقاء فى دائرة التبعية، ويعيد إنتاج نفس الوجوه والخطابات، فلن يكون له مكان غدًا. سيطويه الزمن كما طوى كثيرًا من المؤسسات التى فقدت شجاعتها، ولم تجرؤ على التجديد.

المعادلة واضحة: إعلام يغامر ليصنع المستقبل، أو إعلام يتراجع ليصبح جزءًا من الماضى. الجرأة هنا ليست خيارًا تجميليًا، بل مسألة حياة أو غياب. والتاريخ، كما علمنا دائمًا، لا يرحم من يختار أن يقف فى منتصف الطريق.