رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

كبسولة فلسفية

تُعَدّ البراجماتية حركةً فلسفية حديثة نسبيًا، غير أنّ المصطلح ذاته ضارب في القدم، إذ تعود جذوره إلى أكثر من ألفي عام. ففي اليونان القديمة كان لفظ pragmatic  يعني: «عملي، واقعي، مستعد للفعل»، وكان يُطلق على رجال الدولة والمحامين والجنود. أمّا في روما، فقد تحوّل اللفظ practicas  إلى اسمٍ يدل على «المحامي» أو «المستشار القانوني» الذي يقدّم المشورة للخطباء.

كما كان يُطلق على المراسيم الإمبراطورية آنذاك مصطلح pragmatica jussio، أي «الأوامر الرسمية الملزمة»، فيما عُرفت القرارات المصيرية في شؤون الدولة بـ pragmatica sanctio، أي «المرسوم البراغماتي» الذي لا يجوز المساس به. ولعلّ أشهر الأمثلة في التاريخ ذلك المرسوم الذي أصدره الإمبراطور شارل السادس، حين عقد اتفاقًا مع القوى الأوروبية للاعتراف بحق ابنته، ماريا تيريزا، في وراثة عرش آل هابسبورغ، في غياب وريثٍ ذكر. 

فما البراجماتية Pragmatism إذن، وما المعنى الذي اكتسبته عبر مسيرتها الطويلة؟ عزيزي القارئ، يُمكننا تلخيص جوهرها فيما أكّده الفيلسوف الأمريكي البارز ويليام جيمس، أستاذ الفلسفة في جامعة هارفارد، في كتابه البراغماتية: إن الحقيقة ليست فكرة مطلقة وثابتة، بل هي مرتبطة بالمنفعة العملية وما تؤدي إليه من نتائج ملموسة في حياتنا اليومية. بمعنى آخر، الحقيقة تتحدد بحسب الفائدة العملية والنتائج التي تحققها في الواقع، لا بحسب مجرد الافتراضات أو المثل المثالية.

ومع توسع انتشار البراجماتية وتعمق تأثيرها في الفكر المعاصر، أصبح واضحًا أنّ كلمة "البراجماتية" وأنماط التفكير التي تمثلها راسخة في الساحة الفكرية. ورغم محاولات الفيلسوف شيلر الترويج لمصطلح بديل باسم "النزعة الإنسانية"، بدا هذا الأخير غامضًا ومفتقرًا إلى الوضوح، في حين ظل لفظ "البراغماتية" أكثر تميزًا وسهولة في التداول، لا سيما بعد أن جعله ويليام جيمس مصطلحًا شائعًا وراسخًا في الثقافة الفلسفية.

ومع انتشار البراجماتية وتزايد الاهتمام بها، وُجّهت إليها العديد من الانتقادات، أحيانًا بسخرية أو بروح الدعابة، إلا أن أنصارها لم ينزعجوا من ذلك، بل اعتبروه أمرًا طبيعيًا، فالفلسفة النقدية دائمًا ما تثير الانفعالات. وقد لخّص المعترضون جوهر البراغماتية في فكرة بسيطة تقول إن "أي فلسفة أفضل من لا شيء"، لأن الحقيقة، في نهاية الأمر، هي ما يساعدنا على العيش. ومن هنا تنبثق مبادئها الأساسية: الحقيقة ما ينفع، وما يصلح للعمل. فالاعتقاد ليس إلا قاعدة للعمل، والفكر كله لا قيمة له إن لم يقُد إلى ممارسة أو عادة ملموسة.

في هذا السياق، يؤكد جيمس أن الاختلافات النظرية لا قيمة لها إذا لم تؤدِ إلى فروق عملية ملموسة. فإذا لم يترتب على تصورين متعارضين أي نتائج مختلفة في التجربة أو السلوك، فإنهما يظلّان مجرد خلافات لفظية فارغة. عنده، الفلسفة ليست بحثًا عن حقيقة مجردة في الفراغ، بل أداة عملية لتنظيم الخبرة وتوجيه الحياة.

وقد وسّع شيلر هذه الفكرة في كتبه، مؤكّدًا أن العلم ذاته يخضع لمتطلبات الحياة، سواء في نشأته كاستجابة لحاجة عملية أو في نتائجه التي تُقاس بمدى فائدتها. ومن خلال هذا الطرح، أعطى البراجماتية بعدًا أوسع من منظور جيمس، ربطها بالتاريخ الطويل للتفكير الإنساني منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو وصولًا إلى الفلسفة الحديثة.

وبينما رسمنا في هذا الجزء خريطة البراجماتية وجوهر فلسفتها العملية، يبقى السؤال: كيف تُطبّق هذه الأفكار على قضايا معاصرة مثل المعرفة، والشر، والمعاناة الإنسانية؟ في الجزء الثاني، سنغوص أعمق في رحلة البراجماتية بين الفلسفة والتجربة اليومية، لنكتشف كيف يمكن لمبدأ "ما ينفع" أن يكون بوصلة للفكر والعمل في عالم متغير.

[email protected]