خارج المقصورة
فى يونيو 2024، تقريبا خرج حسام هيبة – رئيس هيئة الاستثمار – ليعلن أن مصر نجحت فى جذب 10 مليارات دولار استثمارات أجنبية مباشرة، بينما كان طموحه يتجاوز هذا الرقم ليصل إلى 12 مليارًا. لم يتحقق الهدف حينها.. لكن بعد عام تقريبًا، وتحديدًا فى 2 سبتمبر 2025، عاد «هيبة» ليكشف عن وصول الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى 12 مليار دولار خلال السنة المالية المنتهية فى يونيو 2025، أى بزيادة قدرها 10%.
يبدو الرقم مُغريا للوهلة الأولى، لكنه فى الحقيقة ليس بالإنجاز المدوى، خاصة إذا وضعناه فى مقارنة تاريخية: فى عام 2008، سجلت مصر نفس الرقم تقريبًا، لكن بفضل تلك الاستثمارات حينها، ارتفع معدل النمو الاقتصادى إلى نحو 7.5% تقريبا.. وهنا المفارقة.. فبعد سبعة عشر عامًا كاملة، نعود لنقف عند نفس المحطة، وكأن عجلة الزمن أرهقتنا دون أن تمنحنا مضاعفة حقيقية للإنجاز.
الإنصاف أن نضع فى الحسبان الظروف والمتغيرات الخارجية، وصعود قوى إقليمية منافسة تمكنت من اقتسام «تورتة» الاستثمار مع السوق المصرى، بل ونجحت فى انتزاع حصص كبيرة منها، ومع كل ذلك، يبقى السؤال الحاضر.. ألم يكن بالإمكان أن يعلن رئيس هيئة الاستثمار عن رقم أكثر طموحًا، 30 أو حتى 40 مليار دولار؟
الأمر الأكثر إلحاحًا، الذى لم يفصح عنه «هيبة»، هو طبيعة هذه الاستثمارات: هل هى استثمارات أجنبية مباشرة «صافية» خالصة الإنتاج والتشغيل؟ أم أنها أرقام مشوّشة تضم صفقات طروحات وبيع أصول لا تعكس قوة اقتصادية مستدامة؟
الرقم الذى تحقق – رغم كل الضغوط – يظل بداية، لكنه لا يكفى فى زمن تتسابق فيه الاقتصادات الإقليمية على اجتذاب رؤوس الأموال، بينما تنزف مصر جزءًا من قوتها الإنتاجية بهجرة شركاتها الوطنية نحو أسواق بديلة. وهنا لا نتحدث عن توسع خارجى محمود، بل عن «هروب» حقيقى من عراقيل وبيروقراطية تكبّل المستثمر المحلى قبل الأجنبى.
الفرص ما زالت قائمة، بل ذهبية، لكنها تحتاج جهدًا أكبر «شوية تعب» من مجرد إعلان أرقام. المطلوب أن تتحرك هيئة الاستثمار بفاعلية، تعرض الفرص الواعدة، وتفتح الأبواب أمام كيانات عالمية لتتخذ من مصر مقرًا رئيسيًا، لا مجرد محطة عابرة. فالسوق المصرى – برغم ما يواجهه – ما زال يملك مفاتيح جذابة، لكنه يحتاج من يمسك بها بإرادة وعقلية مختلفة.
لا ينبغى أن نغتر كثيرًا بما ورد فى تقرير الاستثمار العالمى الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية والتجارة «أونكتاد»، الذى منح مصر صدارة القارة الأفريقية والتاسعة عالميًا فى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة لعام 2024.. فالرقم – وإن بدا لامعًا – لم يكن سوى نتاج صفقة استثنائية بحجم مشروع رأس الحكمة، لا يعكس بالضرورة قوة مستدامة فى تدفقات الاستثمار.
< ياسادة.. المجد الحقيقى لا يُقاس بطفرة عابرة، بل حين تتحول الأرقام إلى قاعدة راسخة، عندما تصبح مصر قادرة على جذب استثمارات سنوية مستقرة تتجاوز 30 مليار دولار، بعيدًا عن صفقات الظروف الاستثنائية.