فى أواخر الأربعينيات، غادر الشاب المصرى سيد قطب القاهرة متجهاً إلى بلدة أمريكية صغيرة اسمها غريلى فى قلب كولورادو. وكان الهدف بسيطاً: أن يتعلم أساليب التدريس الحديثة ويعود بها إلى وطنه. لكن الرحلة، كما ستكشف الأيام، لم تكن مجرد بعثة علمية، بل تجربة وجودية غيرت مساره الفكرى، وألهمت لاحقاً مشروعاً أيديولوجياً راديكالياً هز العالم العربى والإسلامى.
غريلى لم تكن مدينة كبيرة ولا صاخبة، بل بلدة هادئة تحرم الخمر أو ما يسمى فى وقتها dry town. شوارعها واسعة وبيوتها متشابهة. وهناك، وجد قطب نفسه غريباً وسط مجتمع يبدو له غارقاً فى نزعة مادية جامحة. كتب فى رسائله عن الحفلات الصاخبة، وعن شباب وشابات يرقصون بلا حرج، وعن كرة القدم على الطريقة الأمريكية. وكان يراقب التفاصيل بعين الناقد، يسجلها كأنه مخبر سرى.
فى إحدى الليالى، حضر حفلاً راقصاً فى قاعة مزينة بالأضواء. والجميع يضحكون ويرقصون. أما هو، فجلس على طرف القاعة يتأمل المشهد كأنه من كوكب آخر. أفزعه ما رآه من انفتاح اجتماعى فى أمريكا.
لم تكن تجربته كلها مظلمة. فقد أحب الطبيعة فى كولورادو، وانبهر بصفاء السماء وبالجبال المكسوة بالثلج. لكنه فى الوقت ذاته، رأى أن هذا الجمال الطبيعى لا ينعكس على الروح الأمريكية كما تصورها: روح مشغولة بالمال والاستهلاك أكثر من التأمل أو القيم.
هكذا تشكلت يومياته الأمريكية: مزيج من الدهشة والنفور، الإعجاب بالحضارة المادية والرفض لمحتواها الروحى. وبعد عامين، عاد إلى مصر وهو يحمل فى ذهنه صورة مزدوجة: أمريكا القوية والمتقدمة، وأمريكا الفارغة أخلاقياً.
هذه الرحلة القصيرة صارت علامة فارقة فى حياته. فبعد سنوات قليلة، وهو فى فترات سجونه الطويلة فى مصر، سيكتب قطب «معالم فى الطريق» و«فى ظلال القرآن»، نصوصاً ولدت من رحم تجربة لم ينسها: تجربة الغريب الذى جلس فى قاعة رقص بولاية كولورادو، يشعر بأن العالم ينقسم إلى معسكرين لا يلتقيان.
ومن يقرأ يومياته الأمريكية يدرك أنها لم تكن مجرد مشاهد عابرة، بل بذور فكرة كبرى: أن الصراع ليس بين شرق وغرب فقط، بل بين إيمان وكفر، بين روحانية ومادية.
يبقى هنا سؤال لافت: هل يمكن اعتبار كتابات قطب عن أمريكا نوعاً من «الاستشراق المعكوس»، أى نزعة «استغراب» ترد على الاستشراق الغربى؟ فتمثيلات الشرق عن الغرب غالباً ما تصوره عالماً مادياً، صاخباً، بلا روح ولا عمق، مليئاً بالترف المنشود والفسق الممجوج فى آن واحد.
وصف قطب أمريكا بالحضارة المادية بلا روح، قائلاً إن التقدم المادى الفائق لا يوازى عمق الإنسان وما يوحيه من مراتب إنسانية أعلى: «ما الذى أضافته إلى رصيد البشرية من تلك القيم...؟ أخشى ألا تكون هناك مساواة بين حضارة أمريكا المادية والإنسان الذى أنشأها».
فهل يمكن أن نعتبر هذه المقالة نصاً تأسيسياً فى خطاب الاستغراب؟