على فكرة
لا تصدق الكاتب حين يقول لك إن ما يرويه لا علاقة له بالماضى ولا بالحاضر ولا المستقبل، ولا هو تعليق على أحداث جارية، وأنه محض خيال. لا تصدقه، لا سيما إذا كان هو الكاتب الصحفى والمسرحى والروائى والمنتج الثقافى «محمد سلماوى» وحتما إذا كان عمله القصصى الجديد هو «زهرة النار» الذى يطوف بكل الأزمنة، ويعبر عليها، ويقول كلمته عما جرى ويجرى: عن الانفتاح الاقتصادى، عن خصخصة ممتلكات الشعب والوطن، عن الانقسام الطبقى الذى ميز من هم فوق، عمن هم تحت، عن إشعال الفتن الطائفية واستخدام تيار الإسلام السياسى ضد التقدميين اليساريين والناصريين. عن إعلام يلعب دورا مزدوجا عن تمكين المرأة، ويفتح فى الوقت نفسه، كل نوافذه المؤثرة على تشكيل الوعى، لدعاة يصمونها بالعورة، ويربطون ليل نهار بين التدين الشكلى وبين منعها من العمل وعودتها للمنزل وقيامها بأدوارها التقليدية. عن جيل جديد ضائع فى دهاليز البحث عن وظيفة فى مجتمع يقوم على الواسطة لا الكفاءة، ومع ذلك يتمسك بالقيام بدور نافع له فى الحياة السياسية والعامة. عن عصر التخصص الذى لا يرى العالم فى تكامله، فقضى على طرز الثقافة الموسوعية التى كانت سائدة فى أزمنة سابقة. عن التراث الفنى والمعمارى والتشكيلى الذى يضربه الإهمال والتجاهل والجشع والجهل، وبات يتهدده الانتشار الفطرى لشركات التسويق العقارى التى يعمل بها تجار لا مؤهلات علمية لهم، برغم أنه تراث طالما حير الأعداء والأصدقاء، وألهم بعضهم الولع بمصر وتاريخها التليد.
وبثقافة موسوعية عميقة، ولغة عذبة ومعبرة وحافلة بالقيم الجمالية والدلالات الجديدة، ينتقل سلماوى فى قصته بمهارة وبخفة ورشاقة بين الفنون التشكيلية والمعمارية والموسيقى والغناء وطعم وروائح وخرائط المدن وتاريخ الأماكن وأدوارها، فيحفز قارئه أن يغدو أكثر من مجرد كيانه الفردى، حينما يُشركه مع أبطاله فى اختيارات قد تفضى جميعها إلى تلمس إجابة عن سؤال الحب، الذى أرّق البحث عن إجابة شافية له، الإنسان منذ الخليقة، لكى يعيش حياة متوازنة وأقل ألما: الحب بين الرجل والمرأة، وبين الإنسان وعالمه، وبين الفرد ووطنه، وبينه وبين ثقافته وتراثه وهويته وواقعه الاجتماعى والسياسى، ربما لحثه على الفرار من واقع لا يرضى عنه، إلى واقع أكثر غنى وأكثر جدوى، نشدا للتحقق والرضا والسعادة.
وزهرة النار التى تحمل القصة اسمها، هو اسم للوحة الهندية الشهيرة التى تتميز بألوانها النارية الزاهية التى يتغير شكلها مع مقدم الربيع، بما تنطوى عليه من رموز تقدير دينية، وما تحمله من معانى القوة والتوهج والاندفاع والنزق. والأرملة الحسناء بطلة القصة «عالية منصور» تمتلك نسخة أصلية منها، تقبع فى ركن عزيز من محل الأنتيكات التى ورثته عن زوجها رجل الأعمال العصامى. والصدفة وحدها هى ما تتدخل لبناء قصة الحب الصادق المتوهج التى جمعت بينها وبين خالد السروى مهندس معمارى شاب عاطل عن العمل، برغم أنه كان يحلم بعمل يواصل به مسيرة أجداده المعماريين العظام، وهو يصغرها فى العمر، ويختلف عنها فى المستوى الاجتماعى. وبرغم كل الفروق العمرية والاجتماعية بينهما، فقد حقق الحب لكل منهما توزانا فى الحياة، مصدره ليس فقط السعادة الغامرة التى لونت حياتهما بالنشوات العليا، بل أيضا حالة نادرة من اكتشاف الذات والتصالح معها.
حب مستحيل ينتهى بالفراق بين الحبيبين، ليس لتوقف شغف كل منهما بالآخر، بل للرفض الاجتماعى للعلاقة. للعرف السائد الذى قد يقبل بشيخ يهيم بفتاة صغيرة، لكنه يرفض بغلظة وقسوة حب عالية وخالد للفروق العمرية بينهما. ورغم أن القصة تنتهى بالفراق بين الحبيبين، ولا أقول الفشل، فقد تركت الباب مفتوحا أمام احتمالات، تواصلها أملا أن تمنحهما الحياة فرصة أخرى، كما أنها فتحت أبوابا مغلقة للمسكوت عنه من الأسئلة: هل تصلح معايير الخطأ والصواب حكما على مشاعر الحب التى تتسم بالغموض والالتباس والطلاسم، وينعم بها الإله على الإنسان ليخفف عنه بعض بؤسه؟ ومتى نجحت والأعراف السائدة والضغوط الاجتماعية والفوارق الطبقية فى وأد المشاعر؟ الإجابة بالنفى فى كثير من إبداعات الأدب العالمى والمحلى والعربى. وإذا كان المعلم الكبير لويس عوض قال لنا إن الإبداع هو من الوسائل التى تتوسل بها النفس البشرية، للمحافظة على توازنها، ومقاومة الانهيار، فزهرة النار تقول لنا كذلك: إن الحب يحفظ توازن البشر ويمنعهم من الانهيار والتحديق الدائم فى الفناء.