عالم بلا إنسانية

«الماء والملح» طعام الفلسطينيين الأخير
فى غزة طلق رجل زوجته لأنها أكلت كسرة من رغيفه ليس مزحة سخيفة ولكنها الحقيقة المرة التى تصفعنا جميعا أمام هول ما يجرى من جحيم. 21 شهرا من الإبادة المسعورة للشعب الفلسطينى فى غزة والعالم يناشد الولايات المتحدة وإسرائيل وقف الإبادة والمنظمات الإنسانية حبيسة بياناتها الورقية ووصلت حد تبادل الاتهامات بالمسئولية الكاملة عما يجرى على الأرض المحروقة بالبشر والحجر.
وصل الجوع بالفلسطينيين لمراحل كارثية بفعل اشتداد الحصار الإسرائيلى الوحشى، واستمرار إغلاق المعابر، وهو ما خلق نقصًا شديدًا وغير مسبوق فى المواد الغذائية المنقذة للحياة فى القطاع. نهشت المجاعة مختلف الفئات، فيما كانت آثارها على الأطفال أشد وأبلغ، فحصدت أرواح أكثر من 71 طفلًا، لم يجد أهاليهم ما يسدون به رمقهم، أوما يساعدهم للبقاء على قيد الحياة، فيما بلغ عدد الشهداء بسبب نقص الغذاء والدواء أيضا أكثر من 620 شخصا.
حتى الكاميرات اصبحت عاجزة وسط المشاهد المؤلمة، أطفال ونساء وشيوخ يعانون من الجوع والهزال وبعضهم يسقطون أرضا فى الشوارع، وسط مشاهد الخراب، فى وقت تتصاعد المطالب الشعبية والحقوقية بتدخل عاجل لفتح المعابر والسماح بإدخال الغذاء. اضطر البعض لتناول الماء والملح، فى محاولة لإسكات صرخات المعدة، وتخفيف الشعور بالجوع.
خلط أهالى القطاع الماء بالملح وتناولونه مجبرين على معدة فارغة، عقب عجزهم عن توفير أى من أنواع الغذاء.
شرب صحفيو غزة الماء والملح على الهواء، فى رسالة للعالم تعبر عن حجم حرب التجويع التى يتعرضون لها مع عموم سكان القطاع المحاصر. وقال الصحفى الفلسطينى «هانى الشاعر» لـ«الوفد» إنها صرخة من بطون خاوية، تهدف إلى لفت انتباه العالم الذى يقف صامتاً أمام جريمة التجويع الممنهج التى يمارسها الاحتلال، والتى أدت إلى استشهاد عشرات الأطفال والمدنيين بسبب سوء التغذية والجفاف.
وقالت الصحفية الفلسطينية «شيرين خليفة» بدأت أعراض المجاعة علينا بشكل واضح وصريح من صداع ووجع عيون وعدم القدرة على المشى وقىء ماء واصفرار الوجه وضعف عام وهزال. فيما سقطت الإعلامية «سالى ثابت» على الأرض على الهواء نتيجة الإعياء.
تقول سالى: «لم يعد لنا مجال نحن نفر من الموت للموت وننقل الموت وآهات الشهداء وننتظر دورنا».
وكتب إسلام إسلام عبر صفحته على فيسبوك يسأل: «مين يعرف طرق استخدام الملح والماء فى حالات المجاعة للبقاء على قيد الحياة، ولكن بالطريقة الصحيحة، ما قدرنا اليوم نتحمل الملح، لكن سمعت كتير بستخدموه، اللى عنده تجربة بجد يحكيلنا.. فيما يستغيث الفنان أشرف أبوخوصة: غزة تموت جوعا.. مرحلة الملح والماء.. لم نضرب عن الطعام.. بل الطعام هو من أضرب عنا».
وكتب مهند يوسف: أعلِنها اليوم: سنأكل الماء والملح أنا وأطفالى، لم يتبق شيء… لا خبز، لا طعام، ولا حتى وعد بقادم أفضل.. أطفالى ينظرون إلى كل صباح بعيون جائعة، وأنا لا أملك سوى الماء وبعض الملح.. لهذا أعلنها اليوم.. سنبقى على قيد الجوع، وسنأكل الماء والملح فقط... ليس لأننا نريد، بل لأننا لا نملك شيئًا آخر. ساعدونا إن استطعتم… فإن لم يصل الخبز، سيموت الصغار قبل أن يسمع العالم صراخهم.
ويواجه الأهالى فى غزة صعوبة الحصول على مياه نظيفة وصالحة للشرب، بعدما دمر الاحتلال متعمّدًا 720 بئرا مائية وأخرجها عن الخدمة، وهو ما أدى إلى حرمان أكثر من مليون وربع المليون إنسان من الوصول إلى المياه النظيفة، بحسب المكتب الإعلامى الحكومى.
واشار المكتب، فى بيان له، أن الاحتلال لا يزال يمنع إدخال 12 مليون لتر من الوقود شهرياً، وهى الكمية اللازمة لتشغيل الحد الأدنى من آبار المياه ومحطات الصرف الصحى وآليات جمع النفايات وباقى القطاعات الحيوية، وهذا المنع تسبّب فى شلل شبه كامل فى شبكات المياه والصرف الصحى، وفاقم من انتشار الأوبئة، خاصة بين الأطفال.
ومنذ 23 يناير، قطع الاحتلال مياه «ميكروت» –آخر المصادر الأساسية التى تغذى محافظات غزة بالمياه– ما ضاعف من مأساة العطش والمعاناة اليومية. وفى 9 مارس الماضى، قطع الاحتلال آخر خط كهرباء كان يغذى آخر محطة تحلية للمياه المركزية وتقع جنوب دير البلح وسط قطاع غزة، ما أوقف إنتاج كميات كبيرة من مياه الشرب، وزاد من تفاقم الأزمة المائية الخانقة.
٢٫٤ مليون فلسطينى ينتظرون الموت
وحذر المكتب الإعلامى الحكومى فى قطاع غزة من دخول القطاع فى مرحلة موت جماعى، مع استمرار الحصار الإسرائيلى الكامل منذ أكثر من 140 يومًا، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية، بما فى ذلك حليب الأطفال والوقود والدواء.
وأوضح فى بيانٍ ، أن ما يجرى فى غزة يمثل إبادة جماعية ممنهجة تطال أكثر من 2.4 مليون إنسان، بينهم 1.1 مليون طفل، وسط صمت دولى مطبق وعجز المجتمع الدولى عن وقف المجازر والتجويع الجماعى. وأشار البيان إلى أن جميع المعابر لا تزال مغلقة بشكل تام، فى وقت تشهد فيه غزة نقصًا حادًا فى الغذاء والدواء، واستمرارًا فى سياسة التجويع، ما ينذر بحدوث أكبر مجزرة جماعية فى التاريخ الحديث.
ومع مرور الوقت، استنفد اهالى غزة كل موارد الطعام وأصبحت المحلات فارغة، ومسألة العثور على رغيف خبز أشبه بالمستحيل، فيما تشهد أسعار المتوافر من البضائع أسعارًا خيالية بالسوق السوداء بشكلٍ لا يمكن الفلسطينيين المجوّعين الحصول عليه. وحذرت وزارة الصحة الفلسطينية من «احتمال تعرض مئات المجوّعين الفلسطينيين للموت، عقب تدفق أعداد غير مسبوقة إلى أقسام الطوارئ فى المستشفيات بحالتى إعياء وإجهاد شديدين».
أوروبا شريك فى الإبادة
واتهم «المرصد الأورومتوسطى لحقوق الإنسان»، الاتحاد الأوروبى بالتواطؤ الفعلى فى الإبادة الجماعية الجارية فى قطاع غزة، من خلال مواقفه المتخاذلة والمراوغة، والتى تمنح إسرائيل غطاء سياسيا لاستمرار الجرائم ضد المدنيين الفلسطينيين».
قال المرصد ان اكتفاء الاتحاد الأوروبى بمراقبة التزام إسرائيل بالاتفاق الأخير لتحسين وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة عن كثب، يعكس غيابا مدويا للإرادة السياسية، ويؤكد فشلًا أخلاقيًا فى ممارسة أى ضغط فعلى على الاحتلال.
وحذر المرصد من أن الترويج الأوروبى لدخول المساعدات – دون مساءلة حقيقية عن الجرائم المرتكبة – يشكل الوجه الآخر للدور الدموى الذى تؤديه مؤسسات مشبوهة مثل ما تُعرف بـ«غزة الإنسانية»، والتى تُتهم بالمشاركة فى تمرير مشاريع تجويع قسرى داخل القطاع تحت غطاء إنسانى زائف. ووصف البيان اقتصار مطالب الاتحاد الأوروبى على إرسال صناديق طعام إلى غزة، رغم ما يجرى فيها من مجازر ومجاعة منظمة، بأنه خيانة صريحة للإنسانية بأكملها، داعيًا إلى الانتقال من بيانات التعبير عن القلق إلى خطوات عملية وضاغطة تُجبر إسرائيل على وقف عدوانها وإنهاء حصارها المدمر. وشدد على أن الموقف الأوروبى لا يُمكن فصله عن النتائج الكارثية المتراكمة فى غزة، مشيرًا إلى أن الشرعية الأخلاقية والإنسانية للاتحاد الأوروبى على المحك، فى حال استمر بتقديم دعم سياسى غير مباشر للاحتلال على حساب حقوق الفلسطينيين.
الوطن الجديد
وكشفت صحيفة «هآارتس» الإسرائيلية، عن خطة إسرائيلية يجرى تنفيذها، لترحيل سكان قطاع غزة قسرًا، بوسائل منهجية ومتدرجة.
وكشف تقرير تحليلى أعدّه الصحفى فى «هآارتس» جدعون ليفى، أن الخطوة الأولى لعملية الترحيل تشمل تجميع السكان فى معسكرات تركيز لتسهيل الطرد. وأشار إلى صور أقمار صناعية، أظهرت حجم الدمار المنهجى الذى ينفذه الجيش الإسرائيلى فى القطاع، بهدف محو القرى والبلدات، وتمهيد الأرض لإقامة المعسكرات، وضمان استحالة العودة. ورسم ليفى صورة قاتمة لما ينتظر سكان غزة، قائلًا إنه «بعد الانتهاء من عمليات النقل وتجميع السكان فى المدينة الإنسانية، حيث سينهارون تحت وطأة الجوع، الأمراض، والذكريات، سيحين وقت الطرد النهائي». وتابع «سيجرى تحميلهم قسرًا على شاحنات وطائرات نحو (الوطن الجديد): ليبيا، إثيوبيا أو إندونيسيا».
واعتبر الصحفى الإسرائيلى أنه إذا كان «مشروع المساعدات الإنسانية» قد أوقع عشرات الآلاف من الشهداء، فإن مشروع الترحيل سيحصد مئات الآلاف، لكن لا شيء، برأيه، سيمنع إسرائيل من المضى قدما فى تنفيذ خطتها. ولفت ليفى أن «بطل» عملية التطهير العرقى هو رئيس الموساد دادى برنيع، الذى هو حفيد لاجئ التطهير العرقى من ألمانيا. وكانت القناة 12 الإسرائيلية، كشفت السبت، الماضى أن برنيع زار واشنطن الأسبوع الماضى، لمناقشة خطط «إسرائيل» لنقل الفلسطينيين من قطاع غزة، وطلب المساعدة الأمريكية فى تشجيع الدول على استيعاب مئات الآلاف من الفلسطينيين من القطاع. وفى فبراير الماضى، اقترح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب نقل مليونى فلسطينى من غزة إلى دول أخرى من أجل إعادة تأهيل القطاع. لكن الخطة لم تحرز أى تقدم منذ ذلك الحين، بسبب المعارضة القوية من الدول العربية.


