«يا خبر»
كأنَّ الأهوالَ التى نراها منذُ سنةٍ وثمانيةِ أشهرٍ فى قطاعِ غزةَ، وسطَ صمتٍ مريبٍ لضميرِ العالمِ، جعلتنا لا نستطيعُ التفكيرَ فى أيِّ تحركٍ تجاهَ غزةَ من دونِ أن نفعلَ خيارَ نظريةِ المؤامرةِ. ومعَ الأسفِ، فى كلِّ مرةٍ نكونُ على حقٍّ، ونكتشفُ بالفعلِ أنَّ ثمةَ مؤامرةً.
آخرُ المستجداتِ التى تحومُ حولها الشبهاتُ والشكوكُ هو مشروعُ آليةِ المساعداتِ الإنسانيةِ إلى قطاعِ غزةَ، المدعومُ من الولاياتِ المتحدةِ، عن طريقِ منظمةٍ تُدعى «مؤسسةَ غزةَ الإنسانيةَ»، وهى منظمةٌ جديدةٌ مسجلةٌ فى جنيفَ، بدأتْ أعمالَها لتوزيعِ المساعداتِ على الجوعى فى غزةَ يومَ الاثنينِ الماضى وسطَ فشلٍ ذريعٍ فى البداياتِ، وهو ما يزيدُ من الشكوكِ التى ليستْ فقط من جانبِنا، ولكنْ أيضًا من جانبِ الأممِ المتحدةِ نفسها، إذ تقولُ الأخيرةُ والعديدُ من المنظماتِ الإنسانيةِ إنها لا تستطيعُ التعاونَ معَ نموذجٍ ينتهكُ مبادئَها التى تحظرُ التحققَ من هوياتِ المستفيدينَ من المساعداتِ - فى إشارةٍ للمؤسسةِ المزعومةِ - وقد لا يكونُ كافيًا لتغذيةِ جميعِ سكانِ غزةَ. ونشرَ مسؤولونَ إسرائيليونَ وأشخاصٌ مقربون من المؤسسةِ شائعاتٍ تفيدُ بأنَّ منظماتٍ إنسانيةً بارزةً مثلَ المطبخِ المركزيِّ العالميِّ والأممِ المتحدةِ قد انضمتْ للمشروعِ، لكنْ سرعانَ ما أصدرتْ هذهِ المنظماتُ بياناتٍ تنفى مشاركتَها، ناهيكَ عن أنَّ المنظماتِ الإنسانيةَ والجهاتِ المانحةَ المحتملةَ لهذهِ المؤسسةِ شككتْ فى جدوى المشروعِ، وراحتِ الشكوكُ لأبعدَ من ذلكَ حيثُ قيلَ إنَّ الهدفَ الحقيقيَّ من هذهِ المؤسسةِ هو إعادةُ احتلالِ غزةَ.
بحسبِ تحقيقٍ لصحيفةِ «ذا واشنطن بوست» الأمريكيةِ، فإنَّ بعضَ الأشخاصِ الذينَ شاركوا فى التخطيطِ المبكرِ لهذهِ المؤسسةِ بدأوا فى النأيِ بأنفسهم عن المشروعِ، مشيرينَ إلى مخاوفَ أخلاقيةٍ بشأنِ احتمالِ أن تُسهِّلَ الخطةُ التهجيرَ القسريَّ للفلسطينيينَ، أو تُسهمَ فى إساءةِ استخدامِ البياناتِ البيومتريةِ، وحتى مقارنتَها بشركةِ «بلاك ووتر»، وهى شركةُ مرتزقةٍ أمريكيةٍ تورطتْ فى أعمالِ عنفٍ ضدَّ المدنيينَ فى العراقِ.
خطةُ المساعداتِ الجديدةِ لغزةَ بدأتْ فى ساعاتِها الأولى فى حالةِ ارتباكٍ وشكٍّ، ولم ينضمَّ إليها بعدُ مسؤولون إغاثيونَ بارزونَ، كما أنَّ بعضَ الدولِ العربيةِ والأوروبيةِ التى طُرحتْ كممولٍ مفترضٍ للمشروعِ تراجعتْ عن ذلكَ، مما أثارَ تساؤلاتٍ بشأنِ كيفيةِ حصولِ آليةِ المساعداتِ الجديدةِ على التمويلِ والإمداداتِ.
مكمنُ الشكِّ فى أنَّ خطةَ المشروعِ صحيحٌ أنها تضعُ الولاياتِ المتحدةَ فى الصدارةِ، لكنْ لا شىءَ يتمُّ من دونِ التشاورِ معَ إسرائيلَ. كما أنَّ المؤسسةَ المزعومةَ، والتى ستقيمُ مراكزَ إنسانيةً فى جنوبِ غزةَ، تتولى إدارتَها وتأمينَها شركاتٌ خاصةٌ، وعناصرُ أمنيةٌ ذاتُ خلفياتٍ عسكريةٍ واستخباراتيةٍ أمريكيةٍ، وشركاتٌ أمريكيةٌ مجهولةُ الهويةِ تسعى لإخفاءِ بياناتِها، وهو ما يزيدُ من الشكوكِ حيثُ تتجاوزُ هذهِ الخطةُ عمليًّا النظامَ الراسخَ لتقديمِ المساعداتِ، الذى أنشأتهُ وكالةُ غوثِ وتشغيلِ اللاجئينَ الفلسطينيينَ (الأونروا)، وحافظتْ عليه على مدارِ عقودٍ. هذا غيرَ أنَّ المؤسسةَ المزعومةَ لا تقدمُ تفاصيلَ واضحةً حولَ كيفيةِ عملِها ميدانيًّا، أو مصدرِ تمويلِ عملياتِها الشاملةِ، وما لذلكَ من تبعاتٍ كبيرةٍ على مليونى فلسطينيٍّ محاصرينَ داخلَ القطاعِ ويواجهونَ خطرَ المجاعةِ.
الواقعُ على الأرضِ يؤكدُ أنَّ أيًّا من السيناريوهاتِ المطروحةِ بموجبِ ما يُسمى خطةَ مؤسسةِ غزةَ الإنسانيةِ غيرُ قابلةٍ للتنفيذِ. فليسَ من المنطقِ فى شىءٍ أنْ أطلبَ من عشراتِ الآلافِ من الغزيينَ السفرَ لمسافاتٍ طويلةٍ إلى مركزِ توزيعٍ عدةَ مراتٍ فى الأسبوعِ لمجردِ الحصولِ على كيسِ طعامٍ، هذا من الممكنِ قبولُه فى ألعابِ الصالاتِ وليسَ فى ألاعيبِ السياسةِ. ويجافى المنطقَ أيضًا ما قيلَ عن إقامةِ مناطقَ سكنيةٍ شبهِ دائمةٍ، بالنزوحِ من مكانٍ لمكانٍ! فبعيدًا عن الجوانبِ الإنسانيةِ والأخلاقيةِ، هناكَ شكٌّ من الناحيةِ اللوجستيةِ، حيثُ أنَّ نقلَ أناسٍ سبقَ تهجيرُهم أكثرَ من مرةٍ إلى موقعٍ دائمٍ من الصعبِ أن ينجحَ.
كلُّ الشكوكِ السابقةِ وفشلِ التشغيلِ فى اليومِ الأولِ واستمرارِ قصفِ جيشِ الاحتلالِ للمدنيينَ فى قطاعِ غزةَ بالتوازى معَ ما يزعمونَ أنهُ توزيعٌ للمساعداتِ، على قلتِها قياسًا بحجمِ الجوعِ والعوزِ، وحرمانِ شمالِ القطاعِ من المساعداتِ، كلُّ هذا يؤكدُ أنَّ الخطةَ الجديدةَ للمساعداتِ، والتى تُقدمُ على أنها حلٌّ أمريكيٌّ لمشكلةِ التوزيعِ، هى غطاءٌ لأهدافٍ استعماريةٍ أعمقَ وأكثرَ خطورةً. وهذا يدعُ مجالًا للتفكيرِ وفقَ نظريةِ المؤامرةِ، ولا نستبعدُ تنسيقًا استخباراتيًّا أمريكيًّا إسرائيليًّا حولَ الهدفِ الذى لطالما تحدثَ عنه الرئيسُ الأمريكيُّ ترامب وهو تهجيرُ سكانِ قطاعِ غزةَ ونقلُهم إلى دولٍ أخرى، وأنَّ هذهِ الخطةَ ليستْ سوى الخطوةِ الأولى نحو احتلالٍ كاملٍ لقطاعِ غزةَ، وهو الهدفُ الإسرائيليُّ الذى باتَ شبهَ معلنٍ لدى نتنياهو وأعضاءِ حكومتِهِ من اليمينِ المتطرفِ الذينَ حالوا شهورًا دونَ وصولِ المساعداتِ لقطاعِ غزةَ، بل قالَ وزيرُ الأمنِ القوميِّ المتطرفُ إيتمار بن غفير إنهُ ينبغى التفكيرُ فى ضربِ مخازنِ المساعداتِ!!، فكيفَ تنتظرُ من اليدِ التى تقتلُ بالجوعِ أن تمتدَ بقطرةِ ماءٍ أو كسرةِ خبزٍ؟ الهدفُ هو تهجيرُ سكانِ القطاعِ إلى مساحاتٍ ضيقةٍ، وتشجيعُ هجرتِهم القسريةِ وإعادةُ احتلالِ غزةَ.