في الخامس والعشرين من مايو عام 1966، كانت مصر تحتفل بحدث تاريخي عظيم يعكس إرادتها الصلبة وعزيمتها التي لا تلين، وهو إعادة افتتاح قناة السويس بعد عشر سنوات من المعاناة والصعاب التي سببها العدوان الثلاثي على وطننا.
تلك القناة التي لم تكن مجرد مسار مائي عابر بين البحرين الأحمر والمتوسط، بل كانت ولا تزال شريان حياة اقتصادي وسياسي لمصر، ورمزا لعزتنا واستقلالنا الوطني.
بعد أن ترك العدوان آثارا جسيمة على بنيتها التحتية، وخلف دمارا عميقا في ممرها الملاحي، كان من الصعب أن يتصور أي مصري عادي أن القناة ستعود للعمل بكامل طاقتها في يوم من الأيام.
ولكن الإرادة المصرية الحقة، وجهود المهندسين والعاملين الذين كرسوا حياتهم لإعادة هذا الصرح الوطني، أثبتت أن لا شيء مستحيل أمام عزيمة شعب يرفض الاستسلام.
لقد كان تنظيف القناة من الحطام وإعادة تشغيلها بالكامل إنجازا هندسيا وبطوليا في آن واحد، يذكرنا بما يستطيع المصريون تحقيقه عندما يوحدهم هدف واحد، وهو حماية وطنهم وتطويره.
في كل زاوية من زوايا القناة، ترى أثر العرق والتعب والعمل المتواصل، وكأن كل قطرة مياه عادت لتروي قصة كفاح طويل لم يكتب في الكتب فقط، بل خلد في وجدان كل مصري عاش تلك المرحلة.
القناة لم تكن مجرد منفذ للتجارة العالمية، بل كانت رسالة للعالم كله أن مصر قادرة على التعافي، وأن إرادتها أقوى من أي عدوان خارجي، وأن وطنها خط أحمر لا يمكن تجاوزه.
منذ تلك اللحظة، وأنا أتذكر يومياتي في مدرسة الوفد، حيث تعلمت منذ صغري حب الوطن وتقديره، وكيف أن تراب هذا الوطن هو أغلى ما نملك، وكيف أن الدفاع عنه لا يقتصر على البسالة في المعارك فقط، بل يشمل العلم والعمل والاجتهاد في كل مجال يساهم في رفعة مصر.
لقد غرست في مدرسة الوفد قيم الانتماء والوفاء للأرض، وتعلمت أن يكون الحب للوطن شعورا يوميا ينعكس في كل فعل، مهما كان صغيرا، وأن كل نجاح شخصي هو نجاح للوطن، وكل جهد مبذول في تطوير بلدنا هو جزء من معركة مستمرة من أجل مستقبل أفضل.
تعلمت أيضا من زعماء وعظماء الوفد، الذين لم يكونوا مجرد سياسيين أو مفكرين، بل كانوا مدرسة حقيقية في الوطنية والمسؤولية، كيف يمكن للإنسان أن يكرس حياته لخدمة وطنه دون انتظار مقابل، وكيف أن العمل الصادق والمخلص يمكن أن يترك أثرا خالدا في تاريخ الأمة.
لقد علمونا أن الوطنية ليست مجرد شعارات ترفع، بل أفعال ترى وتلمس، وأن حب الوطن يتجلى في كل ما نقدمه له من عطاء وجهد، وها أنا أرى هذا الدرس يتجسد أمامي في قناة السويس، التي كانت وما زالت شاهدا على أن مصر، مهما تعرضت للعدوان أو التحديات، قادرة على النهوض وتحقيق الإنجازات العظيمة بفضل شعبها وإرادته الصلبة.
اليوم، ونحن نحتفل بإعادة افتتاح القناة في 25 مايو، لا يمكن إلا أن نربط هذا الإنجاز التاريخي بما تحقق في عصرنا الحديث من تطوير هائل لمجرى القناة، الذي أصبح مشروعا اقتصاديا وطنيا يسهم في رفع مكانة مصر على خريطة التجارة العالمية، ويجذب الاستثمارات، ويدعم الاقتصاد الوطني، ويخلق فرص عمل للشباب المصري.
كل توسعة وكل تطوير في القناة هو استمرار لمسيرة الأجداد الذين رفضوا أن تبقى مصر تحت رحمة الخارج، ويؤكد أن الإرادة المصرية، إذا اجتمعت مع التخطيط والعمل الجاد، قادرة على تحقيق المعجزات.
كما أن ذكرى 25 مايو ليست مجرد احتفال بيوم في التاريخ، بل هي درس للأجيال القادمة حول الصبر والمثابرة والعمل الوطني، كل مهندس، وكل عامل، وكل مصري ساهم في إعادة القناة إلى الحياة، هو نموذج حي لما يمكن أن يقدمه المواطن لوطنه عندما يتحلى بالإخلاص والوفاء.
وهنا أشعر بالفخر لكوني جزءا من هذا الوطن، الذي علمني منذ صغري في مدرسة الوفد أن الحب الحقيقي للأرض لا يتجزأ، وأن الانتماء الوطني هو شعور يمارس في كل لحظة من حياتنا، في دراستنا، وعملنا، ومجتمعنا، وكل ما نفعله يسهم في بناء مصر القوية والمستقلة.
لقد أصبح اليوم، بعد مرور سنوات طويلة على تلك الذكرى العظيمة، من الواضح أن قناة السويس ليست مجرد ممر مائي، بل هي رمز للكرامة الوطنية، ودرس في الصمود والإصرار، وتجسيد حي لقيم الوفد التي تعلمتها منذ صغري حب الوطن، التضحية من أجله، والعمل من أجل مستقبله، والإيمان بأن كل تحد يمكن تجاوزه إذا كان الشعب متحدا، والإرادة المصرية صلبة كصخور سيناء التي لا تهزها الرياح.
تعلمت أن كل خطوة تتخذ من أجل تطوير وطننا، وكل جهد يبذل في خدمة قضاياه الوطنية، ليس مجرد فعل فردي، بل هو جزء من تاريخ الأمة ومستقبلها.
قناة السويس، منذ افتتاحها بعد العدوان وحتى اليوم، هي شهادة حية على هذا الدرس، وتذكير دائم بأن مصر، بشعبها العظيم وإرادتها التي لا تلين، قادرة على مواجهة أي تحد، وتحويل الصعاب إلى إنجازات، وأن الحب الحقيقي للوطن يترجم دائما في أفعال تترك أثرا خالدا على أرضه وترابه.