فى زمنٍ تُقصف فيه الحقيقة قبل البيوت، وتُباد الأسر على مرأى ومسمعٍ من هذا العالم الأصمّ الأبكم معدوم الضمير والإنسانية، يقف المواطن الفلسطينى وحده، وجهًا لوجهٍ أمام آلة موتٍ لا تشبع، طائراتٍ تعوى فى السماء، ودباباتٍ تنهش الأرض، وبوارجَ تطلق الموت من عرض البحر - كل هذا وذاك - ولا يزال الشعب يقاوم لا بالسلاح فقط، بل بالدمِ بالصمودِ، بالقدرة الخارقة على النهوض من تحت الركام ودفن الأحبة دون أن تنكسر الروح.. أطفالٌ يُسحبون من تحت الأنقاض، نساءٌ يَلِدْنَ الشهداء ثم يواصلن المسير، شيوخٌ يرفعون سباباتهم على أبواب المقابر يرددون نشيد الموت اليومى (على هذه الأرض ما يستحق الحياة)، وشبابٌ يحفرون الخنادق بأظافرهم.. هذا هو الشعب الفلسطيني– مدرسة الفداء وأيقونة التضحية، ونهرٌ من الكبرياء لا يجف.
أما العدو الصهيونى الخسيس المجرم، فليس مجرد احتلالٍ عسكريٍّ، بل كيانٌ شيطانيٌّ يتغذى بدماء الأطفال وبُنى على جماجم الأبرياء.. كيانٌ ما كان ليحيا ويتمدد لولا رعايةٍ أمريكيةٍ دمويةٍ تُغذيه بالسلاح وتمنحه الغطاء الإجرامى فى مجلس الأمن، وتُبرره بخطابٍ كاذبٍ عن (حق الدفاع)، بينما الحقيقة تصرخ فى وجوههم وتقول: أنتم القتلة–أنتم الشركاء فى كل دمٍ يُراق.
أما الخزى والعار فهما عنوان للخنوع والخيانة لبعض الدويلات العربية، التى تلبس قناع العروبة نهارًا وتصافح الصهاينة ليلًا، ليست سوى أذرعٍ لهذا المشروع الاستيطانى القاتل–مدنٌ تستقبل صهاينة التطبيع بحفلات النصر، وأبواقٌ تُجَمِّل الاحتلال، وأنظمةٌ باعت فلسطين فى بازار المصالح الرخيصة.
لتبقى مصر وحدها حاملةً هموم هذا الشعب المكلوم.. وتبقى مصر الحكاية التى لا تنتهى، فهى أمةٌ بحجم أُمٍّ، تحمل وجع الأشقاء وتفتح قلبها قبل حدودها وتغزل من الحصار جسورًا للنجاة.. عند المصري– فلسطين ليست مجرد قضية، فكل صرخة طفلٍ فى غزة يسمعها المصرى كأنها من بيته.. كل شهيدٍ هناك هو ابنٌ من أبنائه، لم تسأل مصر يومًا عن الثمن ولم تطلب مجدًا بل كانت كما عهدها التاريخ.. الحضن والملاذ والسند والبوصلة.. تتحمل مصر ما لا يُطاق.. وحدها تلملم الشتات حين يتفرق العرب، تجمعهم القاهرة، وحين تصمت العواصم تتكلم مصر، وحين ينهار الميزان تمد مصر كفَّها لتمنع سقوط العدالة فى بئر النسيان.. ليس صدفةً أن تُكتَب حكايات فلسطين على جدران الأزهر وفى دفاتر أطفال الصعيد وفى أغانى الكادحين فى شوارع المحروسة.. فمصر لا تتعامل مع فلسطين كضيفٍ.. بل كجزءٍ من الذات.. من الروح.. هكذا هى مصر لا تهتف–بل تفعل–لا تتباهى بل تحمل وحدها، تتحمل بصبر الأمهات وبحكمة التاريخ وبقلبٍ لا يعرف الأنانية–مَن يشبه مصر؟.. لا أحد–لأنها ببساطة.. الوطن حين يكون على هيئة حكاية.. حكايةٍ اسمها فلسطين العزة والتضحية والكرامة.
لكن رغم كل ذلك يبقى الفلسطينى هو المعجزة الوحيدة فى هذا الخراب الكبير.. المعجزة التى تربك المنطق، وتُعرِّى التخاذل، وتثبت أن الشهادة فى سبيل الوطن هى آخر أشكال الكرامة فى زمنٍ ينهار فيه كل شيء.
فى مشهدٍ تقف فيه البلاغة عاجزةً، واللغة تنهار على ركبتيها، ودعت الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار أبناءها التسعة بعد أن ارتقوا شهداء تحت نيران طائرات الكيان الصهيونى السافل فجرًا، فى غارةٍ لم تُبْقِ سوى الرماد والذهول.
آلاء.. أمٌّ وطبيبة أطفال كانت فى مجمع ناصر الطبى تنقذ أرواح الآخرين، بينما كانت أرواح صغارها تُنتزع من بين جدران منزلها فى منطقة (قِيزَان النجار–جنوب خان يونس).. وحين جاءها الخبر انهارت باكيةً، تصرخ باسم طفلٍ تلو الآخر، ولكن لا مُجيب.
تسعة أكفانٍ، فى لحظةٍ واحدةٍ احتضنتهم جميعًا: (يحيى–ركان–رسلان–جبران–إيف–ريفان–سيدين–لقمان–سيدرا) أكبرهم لا يتجاوز الثانية عشرة وأصغرهم رضيعٌ لم يكمل نصف عامه الأول.. كانوا جميعهم حَفَظَةً لكتاب الله، أزهارًا قرآنيةً ما إن نضجت حتى سقطت لا لذنبٍ ارتكبته، بل لأنها وُلِدَتْ على أرض غزة.
أمام جثامينهم، فضمَّتهم (آلاء) كما لم تفعل من قبل، ربما كما تفعل للمرة الأخيرة.. كانت تبحث فى وجوههم المتفحمة عن لمحة حياة، عن بقايا ضحكة، عن أثرٍ لصباحٍ لم يأتِ.. لكن الموت كان كاملًا كاسرًا، لا يترك شيئًا سوى الخراب فى القلب.
الناجى الوحيد من هذه المذبحة كان (آدم) طفلها العاشر الذى يرقد الآن بين الحياة والموت بعد عمليتين جراحيتين، وزوجها جريحٌ يصارع الموت بالحياة.
نختنق بالعجز أمام هول المصاب، لا كلامَ يُقال، سوى أن صبرك قد يُلبسك التاج فى الدنيا والآخرة، لكن لا شيء يُلبس هذا الحزن ثوبًا يمكن احتماله، ولا شيء يمكنه أن يفسر للعقل كيف تحولت عائلةٌ كاملةٌ إلى ذكرى فى لحظةٍ واحدة.
شقيقتها قالت لها من هول الصدمة: الأولاد راحوا يا (آلاء).. فترد بصوتٍ باكٍ مملوءٍ بالإيمان: بل هم أحياءٌ عند ربهم يُرزقون.
كانت (آلاء) تركض بين الحطام تبكى تصرخ تسأل عنهم واحدًا واحدًا، لكن الإجابة الوحيدة كانت الصمت والرماد والفراغ، فهذا ليس مشهدًا عابرًا، هذا إعلانُ موتٍ جماعيٍّ تحت سمع وبصر العالم، وشهادةٌ جديدةٌ على أن الاحتلال الصهيونى ليس فقط جريمةً بل منهجُ قتلٍ ممنهجٍ، تقوده قوى الاستكبار، وتُغذيه الخيانة ويُبرره الصمت.
آلاء النجار–ليست قصةً فرديةً بل هى روايةُ وطنٍ يُصلب كل يوم.. وحكايةُ أمةٍ نامت فى حضن التطبيع، واستيقظت على ركام أطفالها، فى حضنها الأخير لأكفانهم، لم تكن تبكى فقط.. كانت تكتب دون قلمٍ سطرًا جديدًا فى سجل الإنسانية المُغتال.
[email protected]