خارج السطر
أبان فوز المبدع المصرى محمد سمير ندا، صاحب الرواية البديعة «صلاة القلق» بجائزة البوكر للرواية العربية عن موجة خافية تسرى فى المجتمع المصرى، تكرر بيقين عجيب أن مصر تقهقرت فى كل مجال، وأنها لم تعد كما كانت فى الماضى مركز إشعاع حضارى أو طاقة تنوير.
ففور الإعلان عن فوز «ندا» المستحق، تكررت أطروحات نفى فوز مصر بالجائزة لأن دار النشر تونسية، وهى دار مسكيليانى، ولأن المؤلف مغترب، وأنه لم يتشكل وعيه الجمالى فى مصر. وفى ذلك كتب معلقون أن مصر لم تفز بجائزة البوكر، وأن دور النشر المصرية رفضت نشر الرواية لجرأتها. واستطرد مغردون بأن مصر فقدت الريادة الفنية والأدبية والإبداعية والعلمية منذ سنين، وأنها آلان تستقر فى نهايات الصفوف عربياً وإقليمياً.
وهذا الطرح يحتاج لمناقشة هادئة تحاول فصل فكرة الرضا الشعبى عن التقييم الموضوعى للبشر عقولاً وقدرات وتأثيراً. فموقف البعض من السلطة لا يجب أن ينسحب على كل شىء وأى شىء فى هذا الوطن.
وفيما يخص الإبداع الأدبى، أقول وأنا شاهد من أهلها، أن مصر هى البلد الأكثر حضوراً فى الأدب والفن على المستوى العربى. صحيح أن جائزة البوكر للرواية على وجه التحديد لم يفز بها روائى مصرى منذ ستة عشر عاماً، لكن ذلك لا يعد دليلاً دامغاً على تراجع الإبداع. ففى كل عام يدخل مصريون ضمن القوائم القصيرة للجائزة، كما يفوز مصريون بجائزة أخرى فى الرواية العربية هى جائزة كتارا.
وفى عام 2024 دشنت المملكة العربية السعودية أكبر جائزة أدبية للروايات الأكثر تأثيراً وهى جائزة القلم الذهبى، واستحوذ مبدعون مصريون على كثير من مجالاتها.
أما باقى الجوائز فلم تخل من حضور قوى للأدباء المصريين فى مجالات الرواية، الشعر، المسرح، النقد، والفكر. ولا يمر عام دون أن يفوز مصرى بجائزة الشيخ زايد للكتاب، فضلاً عن جوائز البابطين والعويس وشومان والشارقة وغيرها من الجوائز المحفزة.
فضلاً عن ذلك، نستطيع أن نسأل بوضوح عن أكثر خمسة روائيين فى المبيعات فى العالم العربى لنجد أن هناك ثلاثة مصريين.
وعلى خلاف العبارة السهلة التى يرددها البعض بأن المصريين لا يقرأون، أقول بكل ثقة «بل يقرأون ويكتبون ويبدعون بنهم وزخم وسعى دائم للتجويد والتطوير»، وما زال معرض الكتاب المصرى، شاء من شاء، وأبى من أبى، هو أكبر معرض كتاب عربى من حيث عدد الزوار، ومن حيث المبيعات. ولا شك أن مجموعات القراءة والصالونات الأدبية والثقافية التى تأسست ونمت خلال السنوات العشر الأخيرة هى انعكاس طبيعى لاهتمام كبير من الأجيال القادمة بالأدب والإبداع.
وإذا كانت البنية التحتية للثقافة فى مصر ما زالت تعانى أوجه قصور، وإذا كانت كثير من المؤسسات الرسمية المعنية قد شاخت بالفعل وتحولت فعالياتها إلى الشكلية، وتضاءل الاهتمام والتشجيع الحكومى، ونفضت الدولة يدها من الاعتماد على الثقافة والأدب كأحد أذرع القوى الناعمة، فإن ذلك لا يعنى أبداً نضوب الإبداع وانفضاض المصريين عن صناعة الجمال أدباً وفناً وعلماً.
لقد كنت وما زلت واحداً من الداعين لوجوب نقد الذات، ومراجعة النفس، وكبح جماح الشعور المتضخم بالأنا المصرية، تأثراً بالتاريخ القديم، لكننى فى الوقت ذاته، أستهجن سريان الانهزامية والتضعضع وازدراء الذات، والنظر بنظارة سوداء إلى كل برعم أمل.
إن نقد الذات ضرورة من ضرورات التقدم فى مسيرات الشعوب، لكن لا ينبغى أبداً جلد الذات حتى الموت.
والله أعلم.