عاجل
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

 

كانت ليلة شم النسيم أو "عيد الربيع" واحدة من الليالي السحرية في وجدان المصريين، لا تُختزل فقط في الفسيخ والبصل والبيض الملون، بل كانت مناسبة تنتظرها القلوب قبل الأعياد الرسمية، حين كانت مصر كلها تغني وتحتفل بالحياة.

في الزمن الجميل، كانت حفلات "أضواء المدينة" ثم لاحقًا "ليالي التلفزيون" تمثل القلب النابض للفن في تلك الليلة. لا يُمكن أن تمر ليلة شم النسيم دون أن يكون هناك بث مباشر لحفل غنائي ضخم يجمع كبار نجوم الطرب، ويشاهده الملايين في البيوت وعلى المقاهي.

في ذاكرة الفن المصري، تبقى ليلة شم النسيم واحدة من الليالي السحرية التي كانت تختلط فيها نسائم الربيع بأنغام الطرب الأصيل، فتتحول مصر كلها إلى مسرح كبير يحتفي بالحياة. كانت هذه الليلة تعني بداية موسم الفرح، حين تتزين البلاد بالغناء، وتتلون سماؤها بأصوات المطربين والمطربات الذين صنعوا مجد الغناء العربي.

من خمسينيات القرن الماضي وحتى أواخر الثمانينيات، كانت ليلة شم النسيم تقترن بحفلات "أضواء المدينة"، تلك السلسلة التي انطلقت من الإذاعة المصرية ثم أصبحت تنقل على شاشة التلفزيون، لتدخل البيوت وتنشر البهجة في كل أنحاء البلاد. لم تكن مجرد حفلات، بل كانت مناسبات قومية، تُخطط لها الدولة وتشارك فيها الوزارات والمؤسسات، وكانت نجوم الطرب يتنافسون للظهور فيها.

ومع تطور التلفزيون المصري، جاءت حفلات "ليالي التلفزيون" التي تولّت الراية من أضواء المدينة، وقدمت حفلات شم النسيم بصورة أكثر حداثة، لكنها حافظت على القيمة الفنية والاحتفاء بالمطرب الأصيل.

كانت الأندية الكبرى في مصر، مثل نادي الزمالك، والأهلي، والترسانة، وسموحة، والاتحاد، تتسابق في تنظيم حفلات لأعضائها. كانت التذاكر تُباع بالكامل قبل الموعد بأيام، وكان الجمهور يحرص على حضور هذه السهرات مهما كانت الظروف. لم تكن الحفلات تقتصر على القاهرة أو الإسكندرية فقط، بل كانت تقام أيضًا في السويس، والمنصورة، وأسيوط، وغيرها من المدن، في مشهد ثقافي متكامل.

أما الفنادق الكبرى مثل الشيراتون، وهيلتون، وميريديان، فكانت تستضيف حفلات فنية ضخمة تضم نخبة من نجوم الغناء. كان الحجز فيها حلمًا لعشاق الطرب، وكانت الحفلات تُقام في قاعات كبرى مزينة بالزهور والديكورات الربيعية.

عبد الحليم حافظ كان نجم هذه الليالي بلا منازع، وكان الجمهور ينتظره عامًا بعد عام ليشدو بأغاني الحب والوطن. شاركته ليالي الربيع أسماء لامعة مثل نجاة الصغيرة بصوتها الرقيق، وصباح بحيويتها، ووردة الجزائرية بحضورها الطاغي، وفايزة أحمد برقتها، وفريد الأطرش بأصالته الشرقية، وهو صاحب أشهر أغانى تلك المناسبة "الربيع"
(أدي الربيع عاد من ثاني والبدر هلت أنواره)

وكان هناك جيل جديد يفرض وجوده بقوة: محمد الحلو بصوته القوي، وعلي الحجار بحنجرته الذهبية، وهاني شاكر برومانسيته، وعمر فتحي الذي خطف القلوب برشاقته وصوته الشعبي، ومحمد منير الذي غيّر شكل الغناء وقدم لونًا مختلفًا جذب جيلًا جديدًا.

ولا يمكن نسيان نجوم الأغنية الشعبية الذين كانت لهم مكانة خاصة في حفلات شم النسيم، مثل أحمد عدوية، ومحمد رشدي، ومحرم فؤاد، ووردة الشعبية ليلى نظمي التي كانت تشعل الأجواء بأغانيها الخفيفة.

في تلك الليالي، كانت مصر تغني من القلب. لم تكن هناك منصات رقمية، ولا فيديوهات قصيرة، بل كان الصوت الحي والمسرح المباشر هما سيدَي الموقف. كانت الفرقة الموسيقية تعزف بروح، والجمهور يصغي بحب، والمطرب يغني وهو يشعر أنه جزء من ذاكرة الوطن.

كانت ليلة شم النسيم عيدًا آخر للفن، يحتفل فيه المصريون بالحياة من خلال الموسيقى. لم تكن مجرد حفلات، بل طقوس وطنية تعيد التوازن للروح، وتؤكد أن مصر لا تعرف الفرح إلا على أنغام صوت جميل وموهبة أصيلة.

ليلة شم النسيم كانت رمزًا لفن لا يُنسى، ولزمن كانت فيه الموسيقى وسيلة للاحتفال، ولغةً للوطنية، ومتنفسًا حقيقيًا للناس. فهل يمكن أن يعود هذا الزمن؟ لعل الحنين إليه هو أولى خطوات العودة.
لكن الغريب أن هذا التقليد الجميل قد تلاشى في السنوات الأخيرة، واختفى من المشهد تمامًا. حفلات شم النسيم لم تعد تُقام كما كانت، واختفى دور وزارة الثقافة، وتراجع تأثير التلفزيون الرسمي، وغياب واضح من المسؤولين عن الإعلام والثقافة تجاه هذا الحدث الوطني الذي كان يحتفي بالفن المصري في أجمل صوره. لم يعد هناك حرص على جمع النجوم في مناسبة واحدة، ولا حتى رغبة في إعادة إحياء هذه الروح الجماعية التي كانت توحد المصريين على الفن والفرح.

ليلة شم النسيم كانت رمزًا لفن لا يُنسى، ولزمن كانت فيه الموسيقى وسيلة للاحتفال، ولغةً للوطنية، ومتنفسًا حقيقيًا للناس. فهل يمكن أن يعود هذا الزمن؟ لعل الحنين إليه هو أولى خطوات العودة.