أشهر «قائمقام» فى تاريخ «الأرثوذكسية».. وحكيم «المقر البابوى»
رحيل «الأنبا باخوميوس».. جرح غائر فى ذاكرة الكنيسة
البابا تواضروس عن رحلة «أستاذه»: أسّس بنيانه بـ«المحبة».. ولن يفارقنا
البطريرك يكلف «الأنبا بولا» بمهام إيبارشية البحيرة.. ومطران طنطا يروى ذكريات فترة «الانتخابات البابوية»
أساقفة المجمع المقدس ومحافظ البحيرة فى وداع شيخ المطارنة.. ودير الأنبا مكاريوس السكندرى يحتضن جثمانه
ودّعت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الأنبا باخوميوس مطران البحيرة، ومطروح، والخمس مدن الغربية، ورئيس دير القديس مكاريوس السكندرى بجبل القلالى، وأحد أبرز المؤثرين فى تاريخها المعاصر.
وشغل الأنبا باخوميوس منصب قائمقام البطريرك فى أعقاب رحيل البابا شنودة الثالث فى مارس 2012، وأدار المقر البابوى فى فترة مرتبكة لمدة ستة أشهر، وأشرف على الانتخابات البابوية، حتى وصول البابا تواضروس الثانى إلى الكرسى المرقسى فى نوفمبر من العام ذاته.
وعقب صلاة التجنيز -الجنازة- تماسك البابا تواضروس أمام نعش أستاذه، وقال: إننا نجتمع اليوم لنودع قامة روحية، وكنسية، ووطنية، تكتب أعمالها فى تاريخ الكنيسة، والوطن، لافتاً إلى أن الأنبا باخوميوس أسس إيبارشية البحيرة التى لم يكن لها وجود من قبل، وعمل بها على مدار أكثر من نصف قرن.
وأضاف خلال كلمته بمشهد الوداع الأخير، بمطرانية البحيرة، أن الحب كان العلامة المميزة لكل ما صنعه فى إيبارشيته، مشيراً إلى أنه خدم مناطق حضرية، وريفية، وصحراوية، وساحلية، ومع كل هذا التنوع فى البيئات نجح، وعمل عملاً جاداً وفق ثلاثة مقومات هى على الترتيب «الأبوة، والتعليم، والخدمة».
البابا تواضروس الذى يعد أبرز تلاميذ المطران الراحل أشار إلى أن الأبوة فى حياة «الأنبا باخوميوس» سمة مميزة له منذ مطلع شبابه، وهى مفتاح شخصيته الجذابة، مؤكداً أنه كان يرى محبته للأطفال، لدرجة أنه جعل من أحد الشعانين عيداً للطفولة، وقدم أبوة للشباب، والخدام، والخادمات، والأسر، والشمامسة، والرهبان، بجانب علاقته أيضاً مع الآباء المطارنة والأساقفة.
وأوضح أن التعليم كان جزءاً أساسياً من خدمته، فأسس الكلية الإكليريكية وفروعها، ومعاهد للكتاب المقدس، والألحان، والموسيقى، وأردف قائلاً: «منذ أربعين عاماً، وحينما كنت خادماً بكنيسة الملاك بدمنهور اقترحت عليه عمل معرض للكتاب المسيحى، فشجع الفكرة، وجاء خصيصاً، وافتتح المعرض، واشترى كتاباً وقدم تبرعاً لدعمه».
ولفت إلى أن الأنبا باخوميوس خدم الوطن بكل إخلاص، لدرجة أن بعض المسئولين وصفوه بـ«رجل الدولة»، على حد وصفه، نظير حرصه الدائم على حفظ سلام المجتمع، والوطن.
واستطرد قائلاً: «الأنبا باخوميوس سطر بحياته صفحة ناصعة البياض فى تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وإن كنا نودعه، فإننا نثق أنه لن يفارقنا، فالذين نحبهم لا يموتون إذ يعيشون فينا بما تعلمناه منهم».
وحمل جثمان مطران البحيرة إلى دير القديس مكاريوس السكندرى بجبل القلالى، حيث تم وضعه فى المقبرة التى أعدها لنفسه هناك إلى جوار مقبرة الأنبا إيساك الأسقف العام، وتقدم البابا موكب الجثمان إلى الدير.
ومن جانبه قال الأنبا بولا مطران طنطا، والذى تولى مهام تسيير أمور الإيبارشية بتكليف من البابا تواضروس الثانى لحين رسامة أسقف للمطرانية: إن الأنبا باخوميوس كان مدرسة فى الخدمة تتلمذ فيها كثيرون، مستعرضاً رحلته الممتدة من الخدمة، إلى الأسقفية.
الأنبا بولا، الذى كان ساعده الأيمن خلال فترة الانتخابات البابوية، أضاف أن الأنبا باخوميوس أدار تلك الفترة بقدر عالٍ من الشفافية، والنزاهة، حتى انتهاء طقس القرعة الهيكلية، معرجاً على علاقة الأبوة الاستثنائية بينه وبين البابا تواضروس الثانى.
ويلقب «باخوميوس» فى الوسط الكنسى بأنه «بطريرك بلا رقم» نظير مسئوليته عن تسيير أمور الكنيسة لمدة ثمانية أشهر «فترة خلو الكرسى المرقسى» عقب وفاة البطريرك الراحل «شنودة الثالث»، وتنصيبه «قائمقام البطريرك» وفق قواعد المجمع المقدس، وهو أيضاً أحد أعضاء اللجنة التى أدارت الكنيسة عقب الأزمة الشهيرة بين البابا شنودة، والرئيس السادات عام 1981.
ورفض المطران -الذى أمضى بالبحيرة، وتوابعها نحو 50 عاما منذ رسامته أسقفاً عام 1971- الترشح للمنصب البابوى، رغم عروض من أساقفة، ورهبان، بعد إدارته الاستثنائية لأمور الكنيسة فى الأشهر الأولى ولحين إغلاق باب الترشح، وإعلان أسماء القائمة النهائية.
لم يكن الاضطراب كنسياً فقط فى فترة «القائمقام» (مارس/نوفمبر2012) ولكنها سيولة سياسية، وانتخابات رئاسية فى لحظة استثنائية من تاريخ البلاد تتضمن مرشحاً ينتمى لـ«جماعة الإخوان المسلمين» وقتذاك، وخلال هذه الفترة لم يتورط «الأنبا باخوميوس» بتصريحات تُحسب عليه، بل أعلن أن الكنيسة لن تدعم مرشحاً بعينه، تاركاً للأقباط حرية الاختيار.
ورغم إعلانه قبيل الانتخابات البابوية -29 أكتوبر 2012- عن حزنه لما رآه داخل المقر البابوى خلال فترة إدارته، غير أنه آثر العودة إلى مطرانيته، وقال فى كلمة خلال تجليس البطريرك أسالت دموع الأخير: سنعود إلى إيبارشيتنا صغاراً تحت أقدام البطريرك».
إلى ذلك وبعد مرور 10 أعوام على تجليس «الأنبا تواضروس» بقى «الأنبا باخوميوس» مرجعاً روحياً للكنيسة، يتصدى فى مقالاته لـ«فكر اللاطائفية»، أو ما سمّاه مفكرون أقباط «الزحف البروتستانتى»، ويستكمل معاركه للحفاظ على العقيدة الأرثوذكسية بعد أن كان أول من طالب بمحاكمة «جورج حبيب بباوى» المتهم بـ«الهرطقة».
بداية الرهبنة
والتحق «باخوميوس» بدير السريان -وادى النطرون- عام 1962، وسمى «أنطونيوس السريانى»، بعد تخرجه من كلية التجارة جامعة عين شمس عام 1956، ودراسته بالكلية الإكليريكية فى الفترة من (1959 - حتى 1961).
ويروى «باخوميوس» الذى ولد بمدينة شبين الكوم عام 1935 باسم «سمير خير سكر» قصة التحاقه بدير السريان، بعد قراره الاتجاه إلى الرهبنة، لافتاً إلى أنه حين جاء إلى الدير كانت ظروف الكنيسة تختلف عن الفترة الراهنة، وكان يقضى كل إجازاته داخله، وحينئذ، وبعد أن قرر الانضمام لصفوف الرهبان سأله رئيس الدير آنذاك: ماذا سيفعل مع البابا كيرلس؟، لأنه لو ذهب للسلام عليه سيلحقه بدير مارمينا - على حد قوله.
17 يوماً أمضاها «سمير خير» فى بيت الخلوة مرتدياً «بيجامته»، يعاون الرهبان فى جنى المحاصيل، وينتظر فرصة سانحة لارتداء جلباب الرهبنة، وبعد مرور نحو 20 يوما تقريباً، وحين رسم «البابا شنودة» أسقفاً، كان -على حد روايته- يمشى بجوار بيت الخلوة، وسأله: ما ترتيب العمل؟، فوقف، وسأله: مستعد للرهبنة اليوم؟.. قال: نعم.
وبعدها بنحو 3 ساعات دق الجرس، وخلعت «البيجامة»، والتحقت بالرهبنة، وأثناء فترتى الأولى، ولعلم قيادات الدير بأنى مقبل على الخدمة كلفت بالإشراف على المطبعة، والمكتبة، وتنقلت بين عدة خدمات أخرى منها «المطبخ»، والزرع.
وعدلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لائحة الرهبنة إبان فترة البابا تواضروس الثانى بقرار من المجمع المقدس -عام 2013- بتضمينها «قسم، أو تعهد للرهبان أثناء رسامتهم، ووثيقة مبادئ رهبانية، ولائحة تدبير رهبانى تشتمل على إقامة مدارس للرهبان، وتنشيط الدور البحثى، والعلمى للأديرة، بجانب لائحة الانضباط الرهبانى المتضمنة لطرق محاسبة الرهبان».
ويشترط فى طالب الرهبنة أن يكون مسيحياً أرثوذكسياً، له أب اعتراف، ومنتظم فى ممارسة الأسرار الكنسية، ووسائط النعمة (الصلاة، والكتاب المقدس) بشهادة رسمية من أب اعتراف، ومحب للطقوس، والتسبحة، والألحان، وله دراية بعقائد الكنيسة، وتاريخها، ولا يزيد سنه على 30 عاما، ولا يقل عن 23 عاما، على أن يكون حاصلاً على مؤهل جامعى، أو إتمام الدراسة بالكلية الإكليريكية، ويسمح باستثناء شرطى السن، والمؤهل بعد موافقة رئيس الدير.
رحلته إلى مطرانية البحيرة
رُسم «باخوميوس» قساً فى الثانى من يناير عام 1966، وفى الشهر التالى أشرف على المركز البابوى للكرازة لإعداد الخدام الأفريقيين.
وفى السودان، وأثناء فترة خدمة امتدت من (1967-1971)، رسمه الأنبا دانيال قمصاً فى الثامن، والعشرين من يوليو 1968، وأوفده البابا كيرلس السادس لـ«إثيوبيا» عام 1971.
على قائمة باكورة الأساقفة فى فترة البابا شنودة الثالث كان «الأنبا باخوميوس»، حيث رسمه أسقفاً للبحيرة، وتوابعها، والخمس مدن الغربية فى الثانى عشر من ديسمبر عام 1971.
عن هذه الفترة يقول «القمص ميخائيل جرجس» كاهن كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل بدمنهور: إن البابا شنودة الثالث طلب منه إقامة الأنبا باخوميوس عنده بعد رسامته أسقفاً.
واحتفلت المطرانية -حسبما يضيف- بمجىء الأسقف الجديد، ووصل كنيسة الملاك ميخائيل، إلى أن تم التجليس فى الثانى عشر من ديسمبر، وحضر الاحتفالية محافظ البحيرة، والقيادات.
ويسترجع «البابا تواضروس» الثانى ذكريات هذه الفترة، مشيراً إلى أنه كان وقتها طالباً فى كلية الصيدلة، وعلم أن ثمة احتفالاً بمجىء أسقف جديد، وكان قطاع الشباب وقتذاك يرى أسقفاً لأول مرة.
الأنبا بولا «صديق فترة الانتقال الكنسى» مطران طنطا، وتوابعها، قال: إن البحيرة لم تكن على الخريطة الكنسية حتى وصول الأنبا باخوميوس لكرسى المطرانية، واصفاً المطران بأنه «مدرسة كبيرة فى الإدارة الكنسية»، واستطاع خلال فترة أسقفيته أن يطور الخدمة، وأنشأ كاتدرائية العذراء، والقديس أثناسيوس بدمنهور، بجانب العديد من الكنائس.
ويعد الأنبا باخوميوس أول أسقف قبطى لـ«منطقة ليبيا»، حيث وصل طرابلس فى عيد الغطاس عام 1972، وترأس قداساً هناك، وبعدها بدأ ترتيب الخدمة، وتفقد مدينة بنغازى، وأسس هناك 4 كنائس.
ورسمه البابا شنودة الثالث مطراناً فى الثانى من سبتمبر عام 1990، وكان من أبرز المقربين لدى البطريرك الراحل.
وتعد إيبارشية البحيرة هى الأوسع جغرافياً الآن بين إيبارشيات الكنيسة، وسبق أن قال البابا شنودة الراحل: «الأنبا باخوميوس بدأ من مفيش».
علاقته بـ«البابا تواضروس».. كيف بدأت؟
فى البحيرة -ومع فترة أسقفيته الأولى- لم يكن يعرف «الأنبا باخوميوس» أحد إلا كاهن، أو اثنان، وفى كنيسة الملاك ميخائيل كان أحد الخدام «وجيه صبحى» -الذى صار فيما بعد البابا تواضروس الثانى- وتعرفت عليه، وأرسلته ضمن مجموعة خدام شباب إلى بطريركية الإسكندرية.
وحين التحق أحد تلاميذ الخادم «وجيه صبحى» بالرهبنة، لاحت الفكرة له، ونصحه «الأنبا باخوميوس» بالذهاب إلى دير الأنبا بيشوى، وكان دائم السؤال عنه خلال فترة رهبنته، ويعد هو الأب، والمرشد الروحى له.
ويحكى «البابا تواضروس» عن أستاذه قائلاً: «عندما دخلت الكنيسة فى أزمة سنة 1981 قُبيل اغتيال الرئيس السادات، كانت الأمور متوترة، واُختِيرَ الأنبا باخوميوس كأحد أعضاء اللجنة الخماسية التى كانت تدير الكنيسة فى ذلك الوقت منذ حوالى أربعين عاماً، وكان صوتاً للحكمة فى العمل، وفى حفظ سلام الكنيسة والوطن».
فترة «قائمقام البطريرك»
وفيما بعد السابع عشر من مارس 2011 -تاريخ وفاة البابا شنودة- طبقت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لائحة «فترة الانتقال الكنسى»، واجتمع المجمع المقدس لاختيار «قائمقام البطريرك»، وبعد اعتذار الأنبا ميخائيل مطران أسيوط الراحل، استقر المجمع على الأنبا باخوميوس، واستمر فى منصبه لمدة 8 أشهر أدار خلالها الكنيسة، وعبر بها إلى تجليس البطريرك الحالى «البابا تواضروس» فى الثامن عشر من نوفمبر عام 2012.
الأنبا بولا -ذراع قائمقام البطريرك اليمنى آنذاك- قال: كنت قريباً من الأنبا باخوميوس خلال أصعب مرحلة بها الكنيسة، وخلال ثمانية أشهر وقت خلو الكرسى المرقسى، فرض أسلوباً روحياً، وكانت مرحلة مليئة بالأصوام على مستوى الكنيسة فى الداخل، والخارج.
وأضاف أن الأنبا باخوميوس كان ديمقراطياً طوال فترة «خلو الكرسى البابوى»، وحصل أعضاء المجمع المقدس على أدوار واضحة خلال المرحلة، ما بين إشراف على لجنة الانتخابات البابوية، وغيرها.
وكانت الفترة حرجة نظير تعرضه لأمور لم يعرفها إلا «أنا، وهو»، كانت كفيلة بإفساد المرحلة، ولم يسمح بأى تدخلات كنسية وقتذاك، ووصل أن قال: «رأيت فى المقر البابوى ما أغضبنى».
ورحل الأنبا باخوميوس شيخ مطارنة الكنيسة، فى 30 مارس الماضى، وأقيمت صلوات تجنيزه -جنازته- بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وسط حضور كثيف من الأقباط، ولفيف من أساقفة المجمع المقدس، والكهنة، والشخصيات العامة، وتقدم موكب الجثمان البابا تواضروس الثانى، ومحافظ البحيرة الدكتورة جاكلين عازر.


