كبسولة فلسفية
ولقد كانت الوجودية مرحلة مهمة من مراحل الحوار بين العقلانية واللاعقلانية في تاريخ الفكر الأوروبي المعاصر، وجاءت كثورة علي العلم والاستعاضة عنه بالانفعال والعاطفة ووضع الخبرات العاطفية مكان الخبرات العقلية. وعن الموضوعات الأساسية التي تناولتها الفلسفة الوجودية أو اهتمت بها نجدها؛ الفردية – حرية الإرادة – الوجود – العبثية – طبيعة وأهمية الاختيار – طبيعة التواصل. وماذا عن بدايات هذا التيار وأشهر فلاسفته؟
عزيزي القارئ، لقد برزت الفلسفة الوجودية كتيار جديد للتفكير الفلسفي نتيجة للأوضاع العامة التي خلقتها الحربان العالميتان الأولي والثانية من مظاهر قلق وإحباط، ومن إحساس مرهف بهشاشة الوجود الإنساني وضعفه، فاتجهت هذه الفلسفة بكل أجنحتها نحو تعرية الوجود البشري وفضح مظاهر علله، وقيوده ورواسبه التي تكبل حريته فضلًا عن دعوتها لإراحة عقل الإنسان من قوالب التفكير الجامدة، والخروج عن المألوف، وترك العقل بفكر وحرية دون هيمنة، وبهذا انتشرت الوجودية، وذاع صيتها الآفاق بعد الحرب العالمية الثانية بسبب تصديها لمشكلات الإنسان ومدلولاتها الواقعية.
والوجودية كطريقة للتفلسف ترجع للفيلسوف الدنماركي كيركجارد (1813 – 1855م) الذي يعد أول من أعطي لكلمة "وجود" معني عندما صاغ أفكاره الفلسفية في قالب درامي مميز، منتقدًا المقولات العقلية المجردة، ثم اتسع نطاق التفلسف الوجودي علي يد عدد من كبار فلاسفة الوجودية أمثال هيدجر (1889 – 1976م) وجبرئيل مارسيل (1889 – 1973م) وكارل ياسبرز (1882 – 1969م) وجان بول سارتر (1905 – 1980م) الذين يعدون تلامذة كيركجارد. وماذا يعني اصطلاح "الفلسفة الوجودية"؟
صديقي القارئ، على الرغم من ظهور الوجودية وتكوين كيانها الفلسفي في العصر الحديث، إلا أننا نجد أن جذورها عميقة في التاريخ البشري؛ ففي الفلسفة اليونانية القديمة نجد سقراط لم يفصل بين تفكيره ووجوده كواقع ذاتي، وعبارته المحفورة في معبد دلفي (اعرف نفسك بنفسك) خير شاهد على ذلك.
أما عن تعريف الوجودية، فلعلنا نجد أنه من الصعب تعريف الوجودية، بسبب اختلاف آراء الوجوديين أنفسهم حول المنهج والطريقة التي يجب اتباعها في التفلسف حول الوجود الإنساني، وتأكيدهم أن فلسفتهم إنما هي ثمرة لتجربة حياتية معاشة، أو قل صدى لتجربة شخصية. ولهذا نجد أنها حركة فلسفية أدبية، احتلت مكانة بارزة في أوروبا وبالتحديد في فرنسا، مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، والتي ركزت على تفرّد أو تميّز كل فرد بشري كما هو.
والوجودية لغة مأخوذة من كلمة وجود "Existence" الذي هو ضد العدم ذهنيًا وخارجيًا، وانتقل اللفظ إلى اللغات الأوروبية من أصله اللاتيني الذي يعني الخروج من الشيء والبقاء في العالم. وكلمة وجود في اللاتينية تعني "Existentia". ويشكل الوجود أهم مفاهيم هذه الفلسفة ومقصود به الوجود الداخلي للإنسان. بينما تعني كلمة وجود في اللغة العربية الحضور.
وعلي أية حال يمكن تعريف الوجودية من خلال تحليل لفظ (Existentialism) حيث يتكون من مقطعين؛ الأول هو (Existence) ويعني الوجود، والمقطع الثاني (Lism) ويعني الأسبقية؛ وبهذا يكون المعني "أسبقية الوجود" أي أن الوجودية تؤكد أسبقية وجود الإنسان الفرد، ووجود الإنسان هو ما يفعله، وأفعاله تحدد تكونه ووجوده.
وفي الختام، نجد أعزائي القراء، أن الوجود لدي الوجوديين أسبق عن الماهية، والماهية هي ما يكون عليه الشيء أو يمثل طبيعته الأصلية، وهي ترتبط بالمعني الذي أضيفه على الحياة، أو الذي أُقرر أنه موجودًا في طبيعة الواقع، أو الموضوع الذي أدرسه. وفي حين قررت الفلسفة التقليدية من أيام الإغريق أسبقية الماهية على الوجود، تقرر الوجودية أن طبيعة الإنسان أو ماهيته، لا تتحدد إلا من خلال تجربته المعاشة.