رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى

باب السماء .. درب «الجماميز» شاهدة على أجمل الأصوات

محمد رفعت.. قيثارة السماء

بوابة الوفد الإلكترونية

فى العشرينيات الأخيرة ثم ثلاثينيات القرن ظهر القارئ الأعظم الشيخ محمد رفعت، حتى لم يكن أحد يستمع إلى غيره من القراء إلا مصادفة أو نادراً، فقد كانت تلاوته لكتاب الله المجيد نفحة سماوية باهرة شغلت الناس وملأت الدنيا.. حتى تضاءلت مشاهير القراء الذين زامنوا «قيثارة السماء» إلى جانب شهرته، ولم تعد أصواتهم رغم عظمتها ترتفع إلى جوار صوته العبقرى إلا على مضض واستحياء. 
ولد الشيخ محمد رفعت فى حى المغربلين بالدرب الأحمر بالقاهرة يوم الاثنين 1882، وكان مبصراً حتى سن سنتين، إلا أنه أصيب بمرض كف فيه بصره، وهناك قصة لذلك فقد قابلته امرأة وقالت عن الطفل إنه ابن ملوك عيناه تقولان ذلك، وفى اليوم التالى استيقظ الابن وهو يصرخ من شدة الألم فى عينيه، ولم يلبث أن فقد بصره، ووهبه والده «محمود بك» ضابط البوليس لخدمة القرآن، وألحقه بكتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز، فأتم حفظ القرآن قبل العاشرة وأدركت الوفاة والده، فوجد الفتى نفسه عائلاً لأسرته، وأصبح يرتل القرآن كل خميس فى المسجد المواجه لمكتب فاضل باشا حتى عين فى سن الخامسة عشرة قارئاً للسورة يوم الجمعة، فذاع صيته، فكانت ساحة المسجد والطرقات تضيق بالمصليين ليستمعوا إلى الصوت الملائكى، ولا تزال دكته الخشبية التى كان يجلس عليها يرتل القرآن ترتيلاً باقية عند أحد أركان جامع «فاضل باشا» بدرب الجماميز شاهدة على حياة صاحب أجمل الأصوات التى عرفتها مصر. 
لم يكتف الشيخ محمد رفعت بموهبته الصوتية الفذة، ومشاعره المرهفة فى قراءة القرآن، بل عمق هذا بدراسة علم القراءات وبعض التفاسير واهتم بشراء الكتب ودراسة الموسيقى الرقيقة والمقامات الموسيقية، فدرس موسيقى «بتهوفين»  و«موزارت» و«فاجنر» وكان يحتفظ بالعديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية فى مكتبته.
وامتاز الشيخ «رفعت» بأنه كان عفيف النفس زاهداً فى الحياة، وكأنه جاء من رحم الغيب لخدمة القرآن، فلم يكن طامعاً فى المال لاهثاً خلفه، فقد رفض عروضاً كثيرة لقراءة القرآن بالخارج مثل عروض إذاعات لندن وبرلين وتمسك بالقراءة فى مصر، وأيضاً عرض عليه مهراجا هندى اسمه «حيدرآباد» أن يقرأ القرآن ويسجله بصوته فى الهند، ووصل العرض المادى وقتها إلى (100) جنيه فى الليلة الواحدة رغم أن كل ما كان يتقاضاه من الإذاعة شهرياً وقتها كان هو نفس ذات المبلغ، حتى أن الموسيقار محمد عبدالوهاب عرض عليه السفر معه للهند، فقد كان عاشقاً لصوت الشيخ رفعت « وكان يقول: رغم أننى صديق للشيخ إلا أننى عندما أستمع إليه أتحول إلى خادم بين يديه، وطلب منه أن يسجل له القرآن كاملاً مقابل أى أجر يطلبه فاعتذر الشيخ خوفاً أن يمس أسطوانة القرآن سكران أو جنب، فقد كان صاحب مبدأ ونفس كريمة وكانت مقولته «إن سادت القرآن لا يمكن أن يهان أو يدانس أبداً». 
ومع تمتع الشيخ بحس مرهف ومشاعر فياضة، فقد كان – أيضاً – إنسانا فى أعماقه، يهتز وجدانه هزاً عنيفاً فى المواقف الإنسانية، وتفيض روحه بمشاعر جياشة لا تجد تعبيراً عن نفسها إلا فى دموع خاشعات تغسل ما بالنفس من أحزان، فقد حدث أن ذهب لزيارة أحد أصدقائه المرضى، وكان فى لحظاته الأخيرة، وعند انصرافه أمسك صديقه بيده ووضعها على كتف طفلة صغيرة، وقال له «ترى من سيتولى تربية هذه الصغيرة التى ستصبح غداً يتيمة؟» فلم يتكلم محمد رفعت، وفى اليوم التالى كان يتلو القرآن فى أحد السرادقات، وعندما تلا سورة الضحى ووصل إلى الآية «فأما اليتيم فلا تقهر» ارتفع صوته بالبكاء وانهمرت الدموع من عينيه كأنها سيل، لأنه تذكر وصية صديقه، ثم خصص مبلغاً من المال لهذه الفتاة حتى كبرت وتزوجت.
وعرف عنه العطف والرحمة فكان يجالس الفقراء والبسطاء، وبلغت رحمته أنه كان لا ينام حتى يطمئن على فرسه، ويطعمه ويسقيه ويوصى أولاده برعايته، وهو إحساس خرج من قلب ملىء بالشفقة والشفافية والصفاء، فجاءت نغماته منسجمة مع نغمات الكون من حوله. كان منزله منتدى ثقافياً وأدبياً وفنياً، حيث ربطته صداقة قوية بمحمد عبدالوهاب، الذى كان يحرص على قضاء أغلب سهراته فى منزل الشيخ بالسيدة زينب، وكثيراً ما كانت تضم هذه الجلسات أعلام الموسيقى والفن، جمع صوت الشيخ محمد رفعت جميع فئات الشعب أغنياء وفقراء موظفين وحرفيين، ومشاهير وبسطاء ومن بين هؤلاء المترددين عدد من علماء الأزهر، وفنانون وأدباء أمثال أم كلثوم، ليلى مراد، محمد عبدالوهاب، فتحية أحمد، فكرى أباظة محمد التابعى، نجيب الريحانى وبديع خيرى والذى نظم زجلاً رائعاً فى رفعت. وكان الشيخ يغنى لهم بصوته الرخيم الجميل قصائد كثيرة منها «أراك عصى الدمع» أما عبدالوهاب فكان يجلس بالقرب منه فى خشوع وتبتل وتدور بينهما حوارات ومناقشات حول أعلام الموسيقى العالمية. وكان بكاء بطبعه، يقرأ على الهواء مرتين أسبوعياً من خلال ( يومى الثلاثاء والجمعة ) مدة ( 45 ) دقيقة فى كل مرة والدموع تنهمر من عينيه. 
شاء الله أن يصاب الشيخ محمد رفعت بعدة أمراض لاحقته وجعلته يلزم الفراش، وعندما يشفى يعاود القراءة، حتى أصيب بمرض الفواق (الزغطة) الذى منعه من تلاوة القرآن، بل ومن الكلام أيضاً، حيث تعرض فى السنوات الثمان الأخيرة من عمره لورم فى الأحبال الصوتية، منع الصوت الملائكى النقى من الخروج، ومنذ ذلك الوقت حرم الناس من صوته، فيما عدا ثلاثة أشرطة، كانت الإذاعة المصرية سجلتها قبل اشتداد المرض عليه، ثم توالت الأمراض عليه، فأصيب بضغط الدم، والتهاب رئوى حاد وكانت أزمة الفواق (الزغطة ) تستمر معه ساعات. وقد حاول بعض أصدقائه ومحبيه والقادرين أن يجمعوا له بعض الأموال لتكاليف العلاج، فلم يقبل التبرعات التى جمعت له، والتى بلغت نحو 20 ألف جنيه، وفضل بيع بيته الذى كان يسكن فيه فى حى «البغالة» بالسيدة زينب وقطعة أرض أخرى لينفق على مرضه عندئذ توسط الشيخ «أبوالعينين شعيشع» لدى الدسوقى أباظة وزير الأوقاف آنذاك، فقرر له معاشاً شهرياً. وشاء الله أن تكون وفاة الشيخ محمد رفعت فى يوم الاثنين 9 مايو 1950، نفس التاريخ الذى ولد فيه عن ثمانية وستين عاماً قضاها فى رحاب القرآن الكريم.