رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

ﺷﻬﺎدات ﺣﻴﺔ ﻋﻦ ﻗﻬﺮ ﺳﺠﻮن اﻻﺣﺘﻼل

القيد لا يكسر حرائر فلسطين

بوابة الوفد الإلكترونية

< زهرة خدرج: هاجمونا بالكلاب البوليسية قبل تحريرنا 

< زهرة خدرج: الاحتلال لا يُفرِّق بين ذكر وأنثى فى التحقيق والاحتجاز

< ولاء طنجة: الزنزانة تفتقد الإنسانية.. حشرات وحمام مراقب بالكاميرات

< ولاء طنجة: الاحتلال هدد باعتقال عائلتى إن فرحوا لتحرري

شوق عوض: سحبوا حجابى ورفضوا علاجى من جرثومة المعدة

فى سجون القهر يُصبح الصمت لغة والانتظار عقابًا والحرية حلمًا، لا مكان للأمل ولا زمان للراحة، كلُّ شيءٍ خلف الأبواب الموصدة يذوبُ ويتفتت؛ الجديد يُبلى والورد يذبل، والشمس تغرب، والمرأة تشيخ، فى ذمّة الأسر لا فرق بين الأمس والغد، فعقارب الساعة تُصلب على جُدران الزنازين، الأجساد حبيسة الحديد، والأرواح تُحلق خلف القيود لتُعانق سماء فلسطين.

وفى صفقة التبادل الأخيرة، فُتحت أبواب الزنازين على ضوء حرية خرجت من بين أنياب القيد، وعادت الأسيرات إلى أحضان أُسرهن كشمسٍ اختبأت خلف الغيوم طويلًا، عادت كل واحدة منهن تحمل حكايةً هى أعمق من مجرد تجربة أسر، بل شهادةً ناطقةً على جبروت المحتل وقوة إرادة الفلسطيني، رجلًا كان أم امرأةً.

هذا الملف يأتى استكمالًا لانفراد «الوفد» بكشف خبايا الزنزانات الباردة التى تحولت إلى قلاع مقاومة، ويروى حكايات أسيرات انتزعن حريتهن من رحِم معاناتهن، يقترب من تفاصيل أيامهن خلف القضبان، يسرد لحظات فقدٍ أنبتت فى قلوبهن بذور الأمل، ويبعث رسائل صمود تُعلّم العالم أن فلسطين حكاية لا تموت، وأن الحرية قدرٌ يُناضل لأجله حتى الرمق الأخير، وأن الفلسطينى معجزة المتناقضات، هو الأسير الحر، الفانى الخالد، والميت والحي، هو مِلح الأرض وصاحب الحق، شعاره دائمًا: «أن تحيا بلا أرضك.. هو أن تكف عن الحياة».

شهداء الانتظار.. أيقونات تُخلد معنى النضال الفلسطينى

كاتبة وروائية وناشطة فلسطينية، وطنها يسكن قلبها، ويُؤرقها وجع شعبها وبكاء قُدسها الحبيبة، مؤمنة بأن فلسطين «صغرى البنات» تستحق.. إنها الأسيرة المحررة الدكتورة زهرة خدرج.

روت د. زهرة خدرج لـ»الوفد» صفحات الألم والقهر تحت وطأة القصف والأسر قائلة: «وعيت فى طفولتى على القتل والتدمير والتهجير الذى يمارسه الاحتلال بحق شعبى الفلسطيني، كان عمرى 11 حين ارتكبوا مجزرتى صبرا وشاتيلا، وتلتها مجزرة المسجد الأقصى، ومجزرة الحرم الإبراهيمي... وغيرها، ولا تزال صور تلك المجازر تتمكن من ذاكرتى بقوة، تفرض نفسها عليَّ، أجترُّها رغمًا عني، لدرجة تزيح أى نكهة للفرح والسعادة عن أيامي، وأكذب إن ادَّعيت أن بمقدورى أن أقفز عن تلك المحطات.. لا يكاد يخلو بيت فلسطينى من أسرى أو جرحى أو شهداء».

وأضافت: «النضال جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، كونى امرأة فى خمسينياتها، وربة لأسرة كبيرة، وزوجة، وموظفة، وناشطة مجتمعية، وباحثة، وكاتبة، ومصابة بأمراض عدة لا تقتصر على روماتيزم العظام والانزلاق الغضروفى فى العمود الفقري، اقتصر نشاطى على دعم قضيتنا وشعبنا وخاصة فى المحن والأزمات الوطنية المتواصلة التى لا تكاد تخلو منها سنة، كهذه الحرب الشعواء التى شنَّها الاحتلال على غزة لمدة سنة وأربعة أشهر على قطاع غزة، واقتحامات واعتداءات المستوطنين الصهاينة على المسجد الأقصى، وحصار غزة منذ 18 سنة، ومصادرة أراضينا المستمرة فى الضفة الغربية والقدس المحتلة، والتضييق على أسرانا فى سجون الاحتلال وقمعهم... إلخ». 

مقاومة ورفض

وتابعت: «رفعى لصوتى بالمطالبة بحق شعبى فى الحياة، ورفضى لوجود المحتل على أرضي، قادنى إلى الاعتقال والسجن، حيث اعتُقلت فى يناير عام 2024 الساعة الثالثة فى الثلث الأخير من الليل من بيتي، وأمضيت سنة فى السجن، وخرجت فى الصفقة الأولى من طوفان الأحرار فى 20 يناير 2025 ، وكانت لحظات الاعتقال مخيفة وشديدة القسوة، لا أحب أن أتذكرها.. فقد استيقظت على أصوات رطانة فى البيت، نهضت من سريري.. أمام باب غرفتى وجدت عددًا كبيرًا من جنود الاحتلال يقتحمون بيتى ويملؤون الممر المؤدى لغرف النوم، كانوا مدججين بالأسلحة الرشاشة المزودة بكشافات ضوئية أنارت المكان.. قفزت لداخل الغرفة مرة أخرى أبحث عن ملابس الصلاة لأستر بها نفسى صرخوا بى يأمروننى بالتوقف فلم أنصع لأوامرهم، أيقظت زوجي، وارتديت ما يسترني، ثم يممت وجهى إلى حجرة بناتى أوقظهن بهدوء حتى لا يفاجئهن الجنود داخل غرفتهن.. توجهت بعدها إلى غرفة ابنى عبدالرحمن، 15 عامًا، لم أجده فى فراشه، صدمتنى رؤية الغرفة مقلوبة رأسًا على عقب إثر تفتيشها.. أدركت أن عبدالرحمن محتجز لديهم فى مكان ما قد يكون داخل البيت أو خارجه؛ ليَضمنوا اعتقالى بهدوء ودون مقاومة من الأسرة. أخرجونى من بيتي، وكان الجو شديد البرد ماطرًا، ولم يخطر لى على بال أن غيبتى ستطول وتبلغ سنة كاملة».

تحدثت «خدرج» عن ظروف الاعتقال قائلة: «أجلسونى داخل جيب عسكري، قيدوا يدى بقيود بلاستيكية حادة الأطراف آلمت يدي، وعصَّبوا عينى بعصبة قماشية عزلتنى عن كل ما حولي. نقلونى إلى معسكر لجيش الاحتلال قريب من مدينة قلقيلية حتى الصباح، بعدها نقلونى إلى مركز التحقيق. خضعت لتحقيق ارتكز على ضغطى نفسيًا وإرهاق أعصابى لأقسى درجة ممكنة، واجهته بالالتجاء إلى ربى بالدعاء والاستغفار وخاصة استغفار نبى الله يونس، وتذكُّر سِير من سُجنوا من العلماء والأئمة مثل ابن تيمه ونبى الله يوسف».

وتابعت: «الاحتلال لا يُفرِّق بين ذكر وأنثى فى التحقيق والاحتجاز، ولا بين طفل قاصر أو شخص بالغ، أو معتقل مريض أو سليم.. كانت ظروف الأسيرات فى سجن الدامون سيئة للغاية، السمة الأبرز فيها هى سياسة التجويع الممنهجة، والعنف والقسوة والتخويف الدائم، وسياسة الإهمال الطبى المتعمد. خلال التحقيق يبذل المحققون الصهاينة جُل وسعهم للحصول على أكبر كمّ ممكن المعلومات التى يستخدمها ضد الأسير الفلسطينى لاحقًا، وهو ما نواجهه كشعب يرزخ تحت الاحتلال بالوعى بكل ما يتعلق بالاعتقال والأسر ومقارعة السجان وانتزاع الحقوق من إدارات السجون».

وأضافت: «خلال فترة اعتقالى كان هناك الكثير من الأوقات الصعبة والقاسية التى لا تُحصى، ربما كان أقساها قدوم شهر رمضان وعيدى الفطر والأضحى فى الأسر فى ظروف أبسط ما يُقال عنها أنها لا إنسانية، بعيدًا عن الأهل والأحبة.. ومن تلك الأوقات الصعبة جدًا أيضًا كان تلقى أخبار اغتيال قادة وشخصيات فلسطينية وازنة ولها تأثيرها الكبير فى المعادلات السياسية التى تجرى على الأرض عدا عن تأثيرها فى مستقبلنا النضالي. فبعد بدء معركة طوفان الأقصى فرض الاحتلال قانون الطوارئ على السجون، ومُنع جميع الأسرى فى سجون الاحتلال من زيارات الأهل، وحتى المحامين كانوا كثيرًا ما يُمنعون من زيارتنا؛ ولم تكن إدارة السجن تأخذ فى عين الاعتبار أننا إناث، مرهفات الحس، رقيقات، مناضلات يعشقن وطنهن، بل تُعاملنا على أننا إرهابيات يجب إخضاعهن بالقوة وكسر إرادتهن، لذا، كانوا يُكبلون أيدينا وأرجلنا ويعصبون عيوننا فى حال أرادوا نقلنا خارج حدود القسم رقم 3 (الذى كنت محتجزة فيه) للعيادة مثلًا أو لقاعة المحكمة داخل السجن أو مقابلة محامٍ، حيث تقودنا السجانات للأمام عبر سحب قيود اليدين بقوة وعنف يُفقد الواحدة منا توازنها وتعثرها فى المشى وسقوطها أرضًا أحيانًا ودون أن تهتم السجانة لذلك».

 

وواصلت: «صودرت جميع الكتب والأقلام والأوراق منا بعد فرض قانون الطوارئ فى حرب طوفان الأقصى، بل أصبح وجود قلم معنا مخالفة نستحق عليها العقاب بمنعنا من الخروج بساعة الفورة اليومية والاغتسال خلالها.. لم يكن بين أيدينا سوى كتاب الله، وكانت عدد نسخ المصحف الشريف أقل بكثير من عدد الأسيرات، حتى الدروس والمحاضرات التى كان بمقدور الأسيرات تقديمها لبعضهن البعض كانت ممنوعة، لأن أى تجمع أو عمل جماعى داخل السجن أصبح مخالفًا للقانون، حتى الأذان كان ممنوعًا لذا كنت أحترق شوقاً طوال مدة اعتقالى لسماع صوت المؤذن فى بلدى قلقيلية، وسماع صوت زوجى يتلو القرآن».

فضحت الأسيرة المحررة أهوال السجون قائلة: «أى أسيرة تستفز سجانًا، أو ترفض الانصياع لأوامره وقوانينه التى يبتكرها دائمًا لإخضاعنا، كانت تتعرض للقمع والعزل، وأحيانًا تُقمع جميع الأسيرات فى القسم ونُعاقب ضمن سياسة العقاب الجماعى الممنهج التى يتبعها الاحتلال فى السجون وخارجها مع شعبي. لدى العديد من المشكلات الصحية لكنها ازدادت سوءًا فى الأسر وطرأت مشاكل صحية جديدة لم تكن موجودة بسبب سوء الظروف الاعتقالية، وسياسة الإهمال الطبى المتعمد، وسوء نوعية وكمية الطعام. مثلا، فقدت من وزنى 25 كيلو فى فترة قصيرة ما تسبب لى بدوار متكرر وانخفاض السكر فى الدم، وشعور بوهن وضعف عام لا أدرى إن كنت سأتخلص من أثره لاحقا أم لا. الطعام بالسجن بالسجن قليل جدًا ورديء النوعية، ولا يوجد تنوع فيه بشكل يضمن تناولنا لاحتياجات أجسادنا اليومية من الغذاء. وطرق تقديمه كانت قصة بذاتها؛ ففى حملات القمع والتفتيش على القسم صادرت قوات القمع أطباق وجميع الأدوات التى نستخدمها لوضع الطعام، وبعد أيام سلمت إدارة السجن كل أسيرة منا طبقًا مسطحًا وكأسًا وملعقة بلاستيكية.. كانت تلقى مغرفة الشوربة على الغداء ومغرفة من الأرز «المسلوق غير الناضج دائمًا» فى طبق مسطح مهمة صعبة تحفها عقبات جمة لا تقتصر على انسكاب الشوربة خارج الطبق لدى أبسط حركة خلال حمله، كانوا يسلّموننا كل أسبوع 7 علب شامبو «باكيتات صغيرة ردئية النوع» وصابونًا لليد يجفف الجلد، خرجنا كلنا بشعر ساقط وخشن».

وأشارت: «يستعمل الاحتلال أساليب القمع والتضييق والعقاب الجماعى للضغط على الأسيرات لهدم نفسيتهن وكسر صمودهن، عدا عن تطويع علم النفس للوصول لعُقد الطفولة التى تقبع عميقًا داخل نفس كل أسيرة واستنهاضها فى محاولات عنيفة لهزيمتنا نفسيًا. أخبرنا نائب مدير السجن بأنه سيتم البدء بمبادلتنا بأسرى الاحتلال خلال نصف ساعة، وأكثر من التهديد والوعيد والصراخ خلال حديثه.. كان خبر الإفراج مُفرحًا رغم أننى لم أكن واثقة مما يجرى فى الخارج، فهل توقفت الحرب؟ وماذا عن الكثير من التفاصيل الأخرى؟ وقد داخلنى شك أن ينقض الاحتلال الاتفاق، وبالتالى لا يكتمل التبادل.. وبقى ذلك شعورى حتى تسلَّمنا الصليب الأحمر الدولى وركبنا فى حافلاته وتحركت خارج بوابات سجن عوفر. وكانت مرحلة إخراجنا من سجن الدامون ونقلنا إلى معسكر عوفر وزنازين عوفر بعد ذلك تفيض بالإذلال والإهانة والقهر، حيث اعتدى علينا السجانون، وقيدوا أيدينا بقيود بلاستيكية بحواف حادة يشدوها كثيرًا لتجرحنا قمعونا سحبونا بعنف، وهاجمونا بالكلاب البوليسية، وأجلسونا أرضًا فوق الحصى لفترات طويلة تحت السماء ليلًا، ولكن ما إن لمحت الأعداد الغفيرة من شعبنا الذين ارتصوا لاستقبالنا ومشاركتنا فرحة الحرية، زال التعب، وولى الشعور بالقهر والإهانة. وكان عناق عائلتى وأهلى ورؤيتهم من أجمل وأروع اللحظات التى بثت الحياة فى جميع أركان روحي، خاصة وأنهم قدموا لى الكثير من الدعم والاحتواء والمساعدة للعودة لحياتى الطبيعية وتجاوز آثار هذه المحنة القاسية التى مررت بها، وحرصهم على العناية بى لمساعدتى على استعادة صحتى وتوازنى الجسدى والنفسي».

وأكملت: «بعد عام من الغياب عدت إلى بيتى وعائلتي، وجدت الكثير من التغييرات قد حدثت، الأزهار على برندة البيت تضاعف حجمها وملأت فروعها المكان، وإلى جانب بيتى ارتفعت عمارة لم تكن موجودة من قبل، ابنى الأصغر نبت شاربه وازداد طولًا، وابنتى الصغيرة أصبحت فتاة جميلة ولم تعد طفلة صغيرة كما كانت، وابنتى الكبرى تخرجت وأصبحت طبيبة أسنان، وولد لى حفيد وظهرت له أسنان، ومشى بخطوات واثقة، وأصبح ينطق ببعض الكلمات».

واستدركت: «كل تجربة يخوضها الإنسان منا يكتسب منها الكثير، فكيف إذا كانت هذه التجربة هى الأسر؟ فى الأسر تعلمت الكثير.. تغيرت أولوياتى ونظرتى للأمور والأحداث اليومية وتغيرت طريقة تفكيري، سأشرع فى كتابة روايتى الخاصة بهذه التجربة بعنوان:» أيتدثر الياسمين سواداً؟».. قد تكون الرواية حزينة ومؤلمة، ولكنها ستسرد تجربة الاعتقال المُرة، ليست تجربتى الخاصة فقط فى الأسر، ولكنها ستسلط الضوء على اعتقال النساء الفلسطينيات بشكل عام بكل ما فيها من تحديات وإرهاصات، ولنتذكر أن المرأة لم تُخلق للسجن، ولا حتى الرجل أيضًا، فالإنسان خُلق ليكون حُرًّا، ولكن أسوار السجن وأقفال الأبواب وقيود الأيدى والأرجل لا تقيد العقل ولا تحاصر الفكر.. بل ينطلق فكر الفلسطينى - رجل كان أو امرأة - ليجوب العالم ويُبدع ويبتكر ويتغلب على كل ما يعيقه.. فنحن شعب يحب الحياة.. ولكنه يحبها بطعم العزة والكرامة».

وأشادت الأسيرة المحررة باتفاقية تبادل الأسرى قائلة: «إنها حل مهم لإخراج الأسرى من السجون وخاصة أسرى المؤبدات، حيث يوجد فى سجون الاحتلال 500 أسير محكوم عليهم بالمؤبدات، وبمنطق الأمر الواقع لن يخرج هؤلاء من السجون نهائيًا، ولكن الآن: ها هم يعانقون الحرية ويعودون للحياة مرة أخرى، وستبقى القضية الفلسطينية حية فى أذهاننا ونفوسنا.. وسنعود».

واختتمت: «إعلان ترامب عن مخططه للتهجير هدفه صرف الأنظار عن هزيمة دولة الاحتلال أمام غزة المحاصرة من 17 عامًا والمجوعة والمخذولة من العالم كله، ويعتقد ترامب أن بمقدوره خلط جميع الأوراق وإحداث إرباك لدى الفلسطينيين وإفقادهم توازنهم ودفعهم إلى الاستسلام، رغم أننا رأينا بأعيننا كيف صمدت غزة قرابة سنة ونصف وهى تقصف بأشد الاسلحة فتكًا ولم تستسلم أو تتراجع عن تمسكها بحقها وأرضها».

قهر وقوة

لم يكسرها الأسر بل زرع فيها قوة لا تُحطّم، كان نهارها شقاء وليلها بلاءً، يومها خالٍ من صوت الأذان ولكنها كانت «مؤذنة الزنانين» ترفع صوتها الجهورى فى أقبية السجون: «بنات أذّن الظهر»، فكان نداؤها يخترق الجدران.. إنها الأسيرة الفلسطينية المحررة ولاء طنجة.

روت «ولاء طنجة» لـ»الوفد» فصول صمودها منذ نشأتها قائلة: «عِشت طفولة قاسية جدًا فى مخيم بلاطة بمدينة نابلس، حيث فرض الاحتلال الإسرائيلى ظلاله الثقيلة على حياتنا وأنا ابنة الستة أعوام، ففى عام 2003 اُعتقلت والدتى وهُدم منزلنا أمام أعيننا، وحُكم عليها بالسجن 35 عامًا، كبرت أنا وإخوتى الستة فى غياب أمنا محرومين من حضنها، وكان أصغرنا محمد، لم يتجاوز الخمسة أعوام، وفى عام 2011 تنفسنا الصعداء بنيل حريتها بصفقة «وفاء الأحرار»، لكن فرحتنا لم تكتمل، إذ لم تمضِ سوى ثلاثة أشهر حتى اعتُقل أخى محمد، ليبدأ معاناته فى الأسر بحكمٍ دام ستة أشهر، وهو شبل بعمر 14 عامًا».

وكشفت «طنجة» تفاصيل معركتها ضد الاحتلال قائلة: «بدأت نضالى فى 2014، فى وقت كانت فيه غزة تئن تحت وطأة القصف. شاركت فى الأنشطة الثورية برمى المولوتوف والحجارة على أحد الحواجز العسكرية للاحتلال الإسرائيلي، حتى أصابونى برصاص المطاط. وفى عام 2017، كانت الصدمة الكبرى باعتقال أخى محمد، وبعد شهر من اعتقاله، اعتقلت أنا أيضًا بتهمة ضرب ضابط إسرائيلى داخل محكمة عسكرية، فحكموا عليّ بالسجن ستة أشهر وغرامة مالية. أما أخى محمد، فحُكم عليه بالسجن لمدة عامين، وتوفيت أمى أثناء وجود أخى فى السجون الإسرائيلية، وحرمه الاحتلال من توديعها الوداع الأخير».

وأكملت: «أفرجوا عن أخى عام 2019، لكن فرحتنا لم تدم طويلًا، فبعد عامٍ واحد لاحقوه مجددًا، ووجهت له تهمة كونه أكبر المطلوبين لديهم. ثم فى عام 2022، تم اعتقالى أنا بتهمة إطلاق النار على قوات الاحتلال. كانت فترة التحقيق قاسية للغاية، نفسيًا وجسديًا، حيث أخبرنى المحققون بأن أخى محمد قد تم اغتياله، فى محاولة منهم لكسر إرادتى وإضعاف معنوياتي. لكن فشلت محاولاتهم لتهديمي؛ كنت قوية كالجبل.. هكذا علمتنى أمي. قضيت 25 يومًا فى زنازين تحت الأرض فى معسكر بتاح تكفا العسكري، وتعرضت لأشد أنواع التحقيق لإجبارى على الاعتراف. ورغم ذلك، كانت إجابتى «لا أعلم»».

وأضافت صاحبة الـ28 عامًا: «نقلونى لسجن دامون فى حيفا، تحديدًا إلى دالية كرمل. وفى تلك اللحظة تلقيت خبرًا موجعًا عن أخى محمد، وهو أنه فقد مفصل يده!.. فى تلك الأيام، كانت النيابة العسكرية تطالب بحكم ضدى لا يقل عن 10 سنوات، فلم أخشَ حكمهم وقُلت للقاضي: «الحكم هو حكم الله، وليس حكمك».. ومرت الأشهر حتى جاء يوم الحرية والعزة والفخر فى 24 نوفمبر 2023، وعلمت أن صفقة الحرية شملتني، حينها نقلونى والأسيرات لسجن عوفر كانت الفرحة لا تسعنى للقاء أهلي. لكن فرحتى بالحرية لم تكتمل كالعادة، فقد أخبرنى أحد الأسرى المفرج عنهم بالصفقة بأن رصاصة اخترقت وريدًا رئيسًا بجسد أخى كادت تنهى حياته. فضاعت فرحتى  وهددنى ضابط المخابرات بعدم زيارة نابلس، بدعوى أن أخى محمد هناك. ثم تم إبعادى إلى طولكرم، وهناك تعرض المنزل لأكثر من أربع اقتحامات بسبب ملاحقة الاحتلال لأخى محمد وأيمن بعد ذلك».

وعن ظروف الاعتقال الأخير أشارت: «داهمت قوات الاحتلال منزلنا بتاريخ 5/3/2024 واعتقلت أخى محمد، وهو يعانى من حالة صحية حرجة للغاية. وبعد أسبوع من اعتقاله، اعتقلت أنا أيضًا، وعندما بدأ التحقيق جلبوا لى أخى مقيد بالجنازير الحديدية التى ربطوها فى يديه وقدميه، بالكاد يستطيع أن يخطو خطوة واحدة، فى محاولة للضغط عليّ نفسيًا للحصول على اعترافات، واستخدم المحققون أبشع الأساليب النفسية من تهديدات بقتلى وقتل أخي، فضلًا عن الشتائم القذرة لتحطيمى معنويًا وإضعاف إرادتي، وحُكم عليّ بالسجن الإدارى لمدة ستة أشهر واعتقلوا أيضًا أخى أيمن، الذى كان حرًا بشوارع مخيم طولكرم، فاتصل به ضابط المخابرات الإسرائيلى وهدده بتسليم نفسه وقطع قدماي، بعد أسبوع من الاتصال جاء خبر اغتيال أخى أيمن بصاروخ من طائرة أباتشي، وارتقى شهيدًا. تلقيت هذا الخبر الصادم بالأسر، فى تلك اللحظة، نطقت: «اللهم أجرنى فى مصيبتي»، وأديت صلاة الشكر على استشهاد أخى البطل، حينها عزلتنى المخابرات فى الزنزانة الانفرادية  وكانت تلك المرة الرابعة لى بالعزل الانفرادي«.

وتطرقت الأسيرة المحررة للحديث عن مرارة العزل الانفرادى قائلة: «فى أحد الأيام بالساعة الثامنة صباحًا، جاء مدير القسم فجأة، وانتزعنى من شعري، وعزلنى بالزنزانة الانفرادية، بتهمة ما كانوا يروجون لها حول الخوف من «ولاء» تجاه سجاني. ضربونى على رأسى وعيني، وفى الزنزانة كانت المساحة ضيقة جدًا، لا تتجاوز حجم فراش صغير. الحمام كان مكشوفًا، تحت كاميرات المراقبة، أمامى الحشرات تنتشر فى الغرفة، بينما كانت أدوات التنظيف غير متوفرة. أما مياه الشرب فكانت ملوثة، وكلها صدأ الحديد، المؤلم أننى لم أكن أعرف مواعيد الصلاة بشكل دقيق، فكنت أصلى على بركة الله فى تلك الظروف الصعبة. لم تكن هناك سجانات، فقط رجال سجانين، فكنت أضع الحجاب على رأسى طوال الوقت حتى أثناء النوم. ولم أتمدد فى وجودهم، احترامًا لنفسي. قضيت فى تلك الزنزانة عشرة أيام وكأنها سنوات من الألم».

وتابعت: فى قسم الأسيرات، كنا ننتظر ساعة الصلاة بفارغ الصبر، ففى الساعة الواحدة إلا ربع مثلا، كانت واحدة فينا تقف بالقرب من الباب، وترفع صوتها ليصل لغرف السجن الـ13: «صبايا، أذن الظهر»، لنستعد للصلاة. غرفتى كانت قريبة من غرفة الأشبال، فكنت أرفع صوتى أكثر ليسمعونى ويصحوا.. داخل المعتقل، لا توجد عناية صحية، سسبق وأن عانيت من ضغط الدم ورفضوا إعطائى أى دواء، وكانت معاناتى تتضاعف بسبب مرض «الشقيقة»، وهو ألم نصفى بالرأس لا يُعالج إلا بالمسكنات فأخبرت المحامى بمرضنى فأمدّنى بحبة أكمول، وكان إذا تألمت إحدى الأسيرات بشدة طالبنا بحقنا فى العلاج، فكانوا يسخرون منا، ويضطرون لإرسال الحالات الخطيرة لطبيبة إسرائيلية لا تهتم، معالجتها لا تتجاوز كلمات سطحية مثل «اشربى ماء».

واستدركت: «الظروف الصحية بالمعتقل كانت مأساوية، إحدى الأسيرات أصيبت بـ«جرب»؛ لأنهم كانوا لا يقدمون لنا حتى الشامبو الكافى أو المواد الأساسية للحفاظ على صحتنا. فى أحيان كثيرة، كنا نغتسل بالماء فقط لأن الشامبو كان نادرًا جدًا. وسمعنا عن حالات جرب داخل معتقل الرجال، أما أخى محمد فسمعت أنه تعرض لضرب مبرح كاد يودى بحياته، وكسروا أسنانه جميعها. بتلك الفترة أخبرنى المحامى بتوقيع صفقة تبادل الأسرى، وكانت مرحلة الإفراج قاسية للغاية، فقد تعرضنا لتفتيش عارٍ مهين، وشد من الشعر، وكل أنواع الشتائم والإهانات، ثم رُمينا على الأرض كأننا لسنا بشرًا. فى تلك اللحظات، كان ضابط المخابرات الإسرائيلى يتصل بأهلى يهددهم بأنه فى حال إظهار أى مظاهر فرحة باستقبالي، سيتم اعتقالنا جميعًا دون رحمة». 

وفيما يخص مخطط ترامب بتهجير الفلسطينيين قالت: «لن نسمح بتكرار خطأ الأجداد فى عام 1948 عندما تم تهجيرهم من أرضهم. نحن مستعدون أن نموت فى أرضنا ولا نغادرها. وأنا واحدة من هؤلاء، لن نخضع لهذا المخطط، ولن نعيد خطأ النكبة أبدًا. لن نسمح لترامب أو غيره بفرض هذا الواقع علينا. سنقف فى وجههم مهما كانت التضحيات، ولن نخاف من الموت، فكلنا شهداء الانتظار».

حجاب وحرمان

الصحفية الفلسطينية المحررة شوق عوض قالت: «الحياة بالسجن قاسية للغاية، عانيت من ظروف صعبة على جميع الأصعدة. كان الطعام سيئًا للغاية، لا يُغنى ولا يُسمن من جوع، والملابس رثة، والتعامل أشد قسوة. كل يوم كانوا يقتحمون الزنزانة لتفتيشها، أحيانًا حتى فى منتصف الليل. وأصعب فترة مررت بها كانت فى سجن المسكوبية قبل نقلى للدامون، حيث قضيت شهرًا كاملًا فى زنزانة انفرادية، تعرضت لمعاملة سيئة، حيث قاموا بسحب حجابى ومنعونى من استعادته، بل وأكثر من ذلك، كانوا يرفضون حتى تقديم العلاج لي. كنت أعانى من جرثومة حلزونية فى المعدة، أنزف دمًا بسببها، لكنهم لم يكترثوا لآلامى ولم يعالجوني».

وأضافت «عوض»: «لحظة اعتقالى كانت من أصعب اللحظات فى حياتي، خاصة أننى كنت فى تلك الفترة أعمل فى تصوير الأحداث اليومية عند الحرم الإبراهيمى فى الخليل. لكن ما كان يشغل بالى أكثر من نفسى هو تفكير فى أهلي، وكيف سيتلقون الخبر. كان الألم يعتصر قلبى وأنا أفكر بما سيحدث لهم بعد اعتقالي. من بين أصعب المواقف التى مررت بها كان فى نوفمبر ٢٠١١،  فقد تعرضنا للقمع، وكان ذلك من أصعب الأوقات. تم اعتقالى عند الحرم الإبراهيمى فى الخليل أثناء أداء عملى فى التصوير، وبقيت لمدة خمسة أشهر فى السجن. فى تلك الفترة، كنا نقتل الوقت بقراءة القرآن، واللعب، وأخذ دروس فى التلاوة».

واختتمت الأسيرة المحررة: «يجب أن يبقى الجميع متابعًا لوضع الأسرى والأسيرات داخل السجون؛ لأن معاناتهن لا تزال مستمرة وتحتاج إلى أن يُسلط الضوء عليها باستمرار».