كبسولة فلسفية
سنتحدث خلال كبسولتنا هذه عن أداة تمثل العنصر الأساسي في فهم النص الفلسفي، بل هي المفتاح الأول في صياغة هذا الفهم إلى لغة مبسطة، يفهمها القارئ العام قبل المتخصص في الحقل الفلسفي، هذه الأداة هي «القراءة». وعلى الرغم من أن هدفنا طوال كتابة «كبسولة فلسفية» هو مد يد العون للقارئ العام، والمتخصص أيضًا، في فهم مختلف المصطلحات والموضوعات التي يشوبها بعض الغموض والالتباس الفكري، الحاص لكثير من القراء خلال قراءتهم للنصوص ذات الطابع الفلسفي، وهو ما أوضحنا خلال الكبسولات السابقة حول مصطلحات وموضوعات لها ثقلها في الفكر الفلسفي، كما أنها واسعة الانتشار والتداول على ألسنة المفكرين والفلاسفة. ولهذا ستكون كبسولتنا هذه مختلفة بعض الشيء، لأنها ستكون علامة فارقة في التعرف على الأداة التي تمكنا من الدخول للنص، والوصول للفهم الصحيح، دون ملل أو ركاكة فكرية.
عزيزي القارئ إن القراءة تعني تفكيك النص وإعادة تكوينه من جديد، وهو ما يقتضي توضيح العلاقة الغامضة بين المؤلف والنص والذي يريد بناءه. وبالرغم من تعدد وتنوع القراءات (قراءة الأدب، قراءة الفلسفة، قراءة العلم، قراءة القراءة)، فإن القراءة إصلاح نقدي وإجرائي، مفتاح لغة المعرفة والفكر، من أجل فك رموز الكتابة او النص المكتوب عن طريق اللغة والفكر.
كما أن القراءة هنا خبرة محددة في إدراك شيء ملموس في العالم الخارجي، ومحاولة التعرف على مكوناته، وفهم هذه المكونات: وظيفتها ومعناها، وهذا التعريف لعملية القراءة إنما ينطبق على كثير من الأنشطة البشرية في التعامل مع معطيات الواقع. أما الباحث يجد نفسه أمام أنواع مختلفة من القراءة، تتنوع وتتباين سعة وعمقًا من قارئ إلي آخر، وفقآ لخبرة القارئ القرائية ولأسلوبه في التعامل مع النص حتى قيل إن هناك عددًا من القراءات يساوي عدد القراء أنفسهم، وقد يقدم لنا القارئ قي كل مرة قراءة جديدة تختلف عن قراءته الأولي.
أي أن القراءة هي بناء يقابل بناء النص ويحاوره من خلال عملية تفكيكية، تستهدف التعرف على وحدات النص الصغرى، ممثلة في الجمل أو العبارات، والكشف عن العلاقات الجامعة بينها من خلال عملية التفاعل المشترك، مما يؤدي إلى إبراز خصوصية النص وتفرده عن سواه من النصوص، وبهذا تكون القراءة عملية تفكيك لوحدات النص وإعادة بناء لها، وهو الجهد المبذول من قبل القارئ.
ولهذا نجد صديقي القارئ أن القراءة في الدراسات المعاصرة هي التلقي الإيجابي للنصوص، دون الاستسلام لها أو الوقوع في أسرها، بالإضافة إلى معرفة الطريقة التي يكتب بها النص، ويمكن النظر إلى القراءة باعتبارها بناء يحاور النص من أجل التوصل إلى ما يشكل تفرده وتميزه عن سواه من النصوص، ومن ثم معرفة سر خلوده والاهتمام به على مر العصور، قد تكون القراءة عملية غيرة محايدة، تقتضي تدخل القارئ بمعارفه المسبقة وذخيرته المكتسبة من خلال قراءاته السابقة لنصوص مماثلة.
وفي الختام، كانت هذه الكبسولة بمثابة عرضًا مبسطًا لتوضيح وبيان الغرض الحقيقي والمستتر لعملية القراءة، إلا أننا تطرقنا خلال موضعنا إلى ذكر مصطلح آخر وهو «التفكيكية» في أكثر من موضع، وهو ما يدعنا نتساءل، هل هناك تشابه بين القراءة والتفكيكية، أم أن هناك اختلاف واضح وصريح بين الاصطلاحين؟ إجابتنا عن هذا التساؤل ستكون موضوع كبسولتنا القادمة إن قدر لنا الله البقاء واللقاء.