لوجه الله
كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل حينما كنت فى طريقى لصعود الطائرة.. من مطار جدة إلى اسطنبول كمحطة لمطار آخر.. الرحلة طويلة.. والطائرة ممتلئة عن آخرها بحجيج تتخطى أعمارهم جميعا الستين.. وكأنها رحلة لدار مسنين.. جاء مقعدى فى وسط الطائرة تماما.. وسط كومة من النيام.. وفى مثل تلك المواقف.. ليس هناك أفضل من أن تضع السماعة فى أذنك للانفصال عن واقع كئيب.. والدخول فى مطاردة عبثية مع النوم.. الذى لا يأتى أبدا.. لم أشغل بالى كثيرا بمسار الطائرة.. وكان فى خيالى تصور كاريكاتيري لذلك المسار.. كنت أظنها ستتخذ مسارا مستقيما إلى الشمال مباشرة.. عثرت على أحدث أفلام هوليود.. وفجأة وأثناء استغراقى فى متابعة الفيلم.. شعرت برعشة قوية تسرى فى جسدى.. تيار كهرومغناطيسى قوى يمر من أخمص قدمى إلى رأسى.. انتابتنى حالة غريبة.. وقفت كالمجنون.. أين نحن؟.. حاولت الوصول عبثا لإحدى نوافذ الطائرة.. تذكرت أن الشاشة التى أمامى تعرض مسار الرحلة.. فتحت الخريطة سريعا.. فإذا بها مصر.. الأقصر تحديدا.. لقد عبر الطيار غربا ليتخذ مساره إلى الشمال فوق النيل مباشرة من أقصى جنوب مصر إلى البحر المتوسط.
إذا ما هذا التيار الكهرومغناطيسى.. سمعنا كثيرا عن سحر أرض مصر.. عن علوم الطاقة.. لكنها المرة الأولى التى التقى بها مباشرة.
تأكدت أن ما يقال عن فضائل مصر وقوتها الخفية.. ليس خيال أدباء وفلاسفة ولا وله المحبين.. بل قوة حقيقية.. أو ربما الطاقة المقدسة التى منحها لها تجلى الإله عليها يوما ما.. وربما كانت تلك الطاقة سر تعلق المصريين الجنونى بأرضها وعشق الغرباء لها.. وهو ما جعلها درة الجغرافيا وبؤرة الأحداث ومنبع التاريخ.. ذلك التاريخ الذى صنعه شعبها وحده.
ولا أتعجب كثيرا اليوم.. من ولع الشعوب الأخرى بتاريخها وشغفهم بآثارها.. حد الجنون والعبادة والحج لأهراماتها.. ولا بكم ما يرويه الحقدة من أكاذيب حول حضارتها.. فمنهم من يدعى أنهم بناة تلك الحضارة.. دون أثر لتلك الحضارة فى أنفسهم أو بلادهم.. ومنهم من اختلق كائنات فضائية.. جاءت لتبنيها لنا وتهبنا العلوم والفنون وحدنا من بين الأمم.. وترحل دون أثر.. ومنهم من اختلق حضارة عظيمة أغرقها البحر.. لكنها قبل الغرق اختارت أن تعبر المحيط وعشرات البلدان لتبنى مصر وتهدينا حضارتها وعلومها.. حتى من عاشوا على أرضها خدما وعبيدا قالوا إنهم بناة تلك الحضارة.. ولا عجب.. أن نسمع كل يوم المزيد والمزيد من الأكاذيب والخرافات البلهاء.. التى لا هم لها إلا نزع المصريين من حضارتهم وتاريخهم.. فقد عرفوا قدر مصر وماتوا غيظا أن تشرق شمسها من جديد.. ورغم أن ما نهب من أرض مصر أكثر من أن يحصى أو تستوعبه متاحفهم وخزائنهم.. إلا أن مقابر بناة الأهرامات.. وعمال المسلات.. مازالت تؤكد تلك الصلة القوية بين المصريين وحضارتهم.. التى علمها الجميع وجهلناها.. فلك الله يا مصر.