محمود أبو الفتح، الرجل الذي جمع بين الوطنية العميقة والاحتراف الصحفي الراسخ، هو بحق علامة فارقة في تاريخ الصحافة المصرية.
ولد في الزقازيق عام 1893، وتخرج في كلية الحقوق، لكن قلبه كان يميل إلى الكلمة والحبر أكثر من المرافعات في المحاكم، فترك المحاماة وبدأ حياته الصحفية بمراسلة جريدة "وادي النيل" براتب زهيد لم يتجاوز جنيها ونصف، ليصبح لاحقا واحدا من أعمدة صحيفة "الأهرام" حيث قدم انفرادات صحفية كبيرة، كان أبرزها ركوبه منطاد زيبلن الألماني في أول رحلة تاريخية تابعها العالم، وكان من بين ثلاثة صحفيين فقط شاركوا فيها، مؤكدا منذ بداياته أن شغفه بالمهنة لا يعرف حدودا.
قبل ثورة 1919، تميز أبو الفتح ببصيرته الوطنية حين اقترح على سعد زغلول ترجمة ما ينشر عن مصر في الصحف الأجنبية والرد على الأكاذيب باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وفرض نشر هذه الردود على صفحات "الأهرام" أيضا.
ولم يتوقف عند هذا الحد، فقد أجرى حديثا مطولا مع اللورد اللنبي أنكر فيه الأخير كل حقوق مصر، ليصبح الحديث حدثا صحفيا عالميا أضاف إلى سجل محمود أبو الفتح البارز.
ورحلته مع الوفد المصري إلى أوروبا كمستشار إعلامي لم تتوقف عند نقل الأخبار، بل عايش المفاوضات، وواجه صعوبات مالية كبيرة اضطرته للنوم في محطة سكة حديد لندن، لتأتي مساهمة والده لاحقا، فباع فدانا من أرضه لمساندة ابنه في هذه المسيرة الوطنية.
تجربة أبو الفتح الصحفية اتسعت بعد أن حرم من رئاسة تحرير "الأهرام"، فأسس جريدة "المصري" سنة 1936، بمشاركة الصحفيين محمد التابعي وكريم ثابت، ومع مرور الوقت أصبح المالك الوحيد للجريدة، مؤكدا أن الصحافة الوطنية ليست مجرد أداة حزبية، بل فضاء مستقلا يواجه الانحرافات ويعبر عن الحقيقة بصوت عال.
لم تجعل طموحاته المادية تؤثر على استقلالية المهنة؛ بل حرص على اختيار كتاب كبار لتشكيل جريدة قوية ومستقلة، ومؤثرة على الرأي العام.
كان أبو الفتح أيضا صاحب فكرة إنشاء نقابة الصحفيين عام 1941، وقدم شقته في عمارة الإيموبيليا لتكون أول مقر للنقابة، ليظل نموذجا للروح المؤسسية في الصحافة المصرية، فالمهنة بالنسبة له ليست مجرد عمل، بل رسالة وطنية سامية تتطلب التضحية والإخلاص.
وقد وصف نفسه بأنه "أشهر عازب في الصحافة المصرية"، معللا ذلك بأن عمل الصحفي في الليل لا يتوافق مع الزواج، فهو يكرس حياته للصحافة والوطن قبل أي اعتبار شخصي.
لكن مسيرته لم تكن سهلة، فبعد ثورة يوليو 1952، عطلت جريدته وتمت مصادرة ممتلكاته بسبب مواقفه الداعمة للديمقراطية ورفضه الانحياز للسلطة، وحكم عليه بالسجن عشرة أعوام غيابيا، ليكون ثمن تمسكه بالحرية والمبادئ أغلى ما دفعه أي صحفي في زمانه.
وقد توفي في جنيف عام 1958، ورفض عبد الناصر دفنه في مصر خشية أي ردود فعل شعبية، فتم نقله ودفنه في تونس بحضور الرئيس بورقيبة.
محمود أبو الفتح ليس مجرد صحفي أو نقيب، بل هو رمز للصحافة الوطنية، رجل جمع بين الفكر الاستراتيجي والقدرة التنظيمية والروح الوطنية الصادقة.
هو من منح الكلمة المصرية ثقلها في الداخل والخارج، وساهم في نقل صورة مصر الحقيقية إلى العالم في مراحل حساسة من تاريخها، من وفد سعد زغلول إلى رحلات الأمم المتحدة، ومن "الأهرام" إلى "المصري"، ترك محمود أبو الفتح إرثا حقيقيا في الصحافة الوطنية، إرثا لا يقتصر على الأخبار والمقالات، بل يشمل مبدأ الحرية والمهنية والكرامة.
إذا نظرنا إلى تاريخ الصحافة المصرية، سنجد أن أبو الفتح كان متقدما على زمنه، روحه المؤسسية جعلته يتفوق على كبار الكتاب ورؤساء التحرير، وأخلاقه الوطنية جعلته يقف بثبات أمام أي سلطة تحاول تحجيمه.
إنه نموذج الصحفي الوطني الذي يضع بلاده ومبادئه فوق كل اعتبار، ويعلم أن الصحافة ليست مجرد حبر على ورق، بل هي سلاح الأمة في الدفاع عن كرامتها وحقوقها.
محمود أبو الفتح لم يكتب الأدب الروائي، لكنه كتب التاريخ الصحفي المصري بيده ودمه، وجعل من مهنته رسالة حقيقية للوطن، تاركا أثرا خالدا لكل من جاء بعده.