رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

ندي

ألقى حرس الحدود القبض على رجلين داخل خيمة منصوبة قرب واحة، وسط الصحراء الفاصلة بين مصر وليبيا، واقتادوهما مقيدين بالحديد نحو مركز «الضيعة» الحدودى, وحين سألهما مأمور المركز: «لماذا دخلتما البلاد بلا جوازات؟»، صاح أحدهما بجسارة غير مألوفة فى مثل هذه المواقف: «جواز سفر؟ ألا تعرفني؟ أنا الحبيب بورقيبة». 

كان ذلك فى الساعات الأخيرة من ليل الخامس والعشرين من أبريل 1945، حين نفى الضابط معرفته به، فزاد حنق «بورقيبة» مضيفاً: «يا رجل، ألم تسمع عن نضالى، ودخولى السجن وخروجى منه وعن جهادى ضد فرنسا, يا رجل أنا فى تونس مثل سعد زغلول فى مصر», لكن الضابط واصل إنكاره، فيما بدت الخيبة واضحة على ملامح «بورقيبة». 

فشلت جميع محاولات «بورقيبة» فى شرح القضية الوطنية التونسية للمأمور، بل فشل فى أن ينتزع منه اعترافاً بوجود تونس على الخريطة, واعتقد أن الأمور ستنتهى عند هذا الحد.

ينقل الصحفى المخضرم محمد حسنين هيكل فى مقالته «بصراحة» بجريدة الأهرام فى 15 سبتمبر 1961، عن «بورقيبة» متذكراً وقائع ذلك اليوم العصيب قوله:«استدرت أخرج غاضباً يائساً... لكن ضابط الحدود قال لى: تعال هنا... كيف دخلت الحدود من غير جواز سفر؟ فقلت: لقد جئت هارباً، فمن أين لى أن أحصل على جواز سفر؟ فأجاب ببرود شديد: إذن لا بد من ترحيلك إلى سلاح الحدود ليحققوا معك.

ثم استجمع مأمور المركز الحدودى صرامته مخاطباً «بورقيبة» ورفيقه بأنه لن يسمح لهما بالعبور ولن يطلق سراحهما، وغاية ما يستطيع عمله هو إعلام رؤسائه بالموضوع، فما كان من «بورقيبة» إلا أن ضرب كفاً بكف مردداً: «وأنا الذى كنت أنتظر أن تستقبلنى الجماهير فى مصر بالورود والموسيقى». 

وبينما كان «بورقيبة» ورفيقه ينتظران الفرج القادم على مهل من القاهرة داخل نظارة مركز الحدود، فوجئا باستدعائهما للحضور أمام مأمور المركز للتوقيع على محضر، بدعوى دخول البلاد دون جواز سفر، وأُبلغا بأنهما سيُنقلان صباحاً إلى محكمة العامرية للمثول أمام القاضى.

ومع ساعات الصباح الأولى، اقتادهما الشاويش عبدالرزاق السودانى نحو محطة القطار، وفى الطريق طلب منه بورقيبة أن يمكّنه من إرسال برقية لعبدالرحمن عزام باشا، أمين عام جامعة الدول العربية، يطالبه فيها بالتدخل.

وقبل أن ينطلق القطار نحو الإسكندرية، كان رئيس مركز الحدود ينهب الأرض بسيارته «الجيب» يريد اللحاق به, وصل الضابط المصرى على عجل وقفز داخل العربة مقبّلاً «بورقيبة» ورفيقه، ملحّاً فى طلب العفو والاعتذار، وسط ذهول الركاب.

وضع الضابط فى يد «الشاويش» حزمة أوراق هى وثيقة سفر وبطاقات حجز فى الدرجة الأولى فى جناح مريح فى القطار, كان منظر «بورقيبة» ورفيقه بالملابس التقليدية الليبية التى عبروا بها وسط جناح «الباشاوات» فى القطار غريباً، لكن تعلّقهما بالقاهرة بدد كل خجل.

وصل «بورقيبة» إلى القاهرة ليل الثامن والعشرين من أبريل 1945, ولم يكن الاستقبال فى القاهرة أفضل من لحظة الدخول سراً إلى مركز الضيعة الحدودى, ولكنه فتح خطوط تواصل مع القوى السياسية المصرية، التى لم تتحمس كثيراً له باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التى كانت تسعى لتوسيع نشاطها نحو الدول العربية.

كانت «قاهرة الأربعينيات» كبيرة وصاخبة, فيها كل الملل والطوائف، حتى إنها كانت مكتفية بنفسها عن معرفة ما يدور خارجها أو حولها, ولم تكن أخبار بلاد المغرب ذات أهمية بالنسبة للمصريين، بعكس أهل المغرب الذين كانوا يتابعون ما يجرى فى مصر بلهف ودقة، ويعرفون كتّابها وزعماءها وحتى أسماء فنانيها.

كان مثقفو تونس منقسمين بين عباس محمود العقاد وعبدالقادر المازنى وكان أبوالقاسم الشابى يراسل مجلة «أبوللو» القاهرية لينشر فيها قصائده، وتغص مسارح العاصمة بمشاهدة مسرحيات نجيب الريحانى فى جولة المغاربة.

فى هذه الأجواء، وجد بورقيبة نفسه غريباً فماذا حدث؟

التفاصيل فى الحلقة القادمة

حفظ الله مصر وأهلها

[email protected]