رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

قلم صدق

شاء القدر أن أكون من قاطنى ضواحى مدينة حلوان، بل من مواليدها، وأن أعيش ذروة عمل المصانع التى تمتلكها المدينة، فبحق تعتبر حلوان إحدى القلاع الصناعية فى مصر، ولمَ لا وهى تمتلك وحدها كبرى الشركات الصناعية الثقيلة فى مصر، بل وفى الشرق الأوسط، فهذه شركة الحديد والصلب، وتلك شركة الأسمدة «كيما».. هذه مصانع «النصر للسيارات»، وتلك مصانع عربات السكك الحديدية «سيماف».. هذه مصانع الكابلات الكهربائية، وتلك شركة الغزل والنسيج.. هذه للفحم وتلك للمعادن.

لهذا تعتبر مدينة حلوان البقعة المفضلة للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، التى ترتاح نفسه بين أصوات ماكيناتها، وتروق عينه بالنظر لدوران تروسها، فيرى نفسه بين عمالها، ويستشرف المستقبل بإنتاجها، فهذه المصانع هى التى أسهمت بشكل كبير فى تحقيق نسبة نمو اقتصادى خلال الفترة من عام 1957- 1967 بلغت 7% سنويًا، وذلك وفق ما أعلنه البنك الدولى فى تقريره رقم 870.

وكان عبدالناصر يحتفل سنويًا بعيد عمالها بين مصانعها وشركاتها وعنابرها وورشها.. يستمد قوته بمصافحة سواعد رجالها، فهى منبره الذى يُصدِّر من خلاله خطبه لجموع مصر من عمالها.

وفى طفولتى كنت أستيقظ فى السادسة صباحًا لأصل لمدرستى الابتدائية التى تقع بين المصانع والمدائن، والتى لاسمها والشارع الذى تقبع فيه نصيب من أسماء مصانعها، فينسب اسمها لكبرى شركات الأسمنت بالشرق الأوسط، وشارعها يسمى بـ«الحرير» نسبة لشركة حلوان للغزل والنسيج، فكان من حسن الحظ أن يتماس ميعاد مدرستى مع دخول وردية العمال لمصانعهم.. فأعيش بينهم، وكأننى فى خلية نحل، يتسارعون لشراء مؤنة يومهم (فطارهم)، كأنهم يستعدون لدخول حرب من نوع خاص، فالكل يجرى.. هذا يشترى، وذاك يبيع.. أتوبيسات مملوءة بالعمال.. أرض تكتسى بالأقدام.. جلابيب زرقاء.. تختلط بقمصان بيضاء.. الحضرى مع الريفى.. الكل يطلب مأربه.

هذه حلوان التى عشت بين جنباتها، والمصانع التى كانت بها آلات صوت، تُصْدرُ أصواتها القوية للإعلان عن ميعاد دخول عمالها، والتى كان يسمعها أهل المدينة كلها.. وكأنها ساعة بج بن.. أو جامعة القاهرة تعلن تمام ساعتها.. ومن أسف اليوم أستقل سيارتى، وتكاد تسقط دمعتى، فأقطع طريقًا طويلًا بالدقائق يحسبُ، يُسمى للأسف (بين الشركتين)، على جانبه إحدى شركاتها (شركة حلوان للغزل والنسيج) التى كان يعمل بها عشرة آلاف عامل ويزيد، واليوم حوالى ألفين وخمسمائة عامل، وسمعت أنه خمسمائة بالتحديد، بعد توقف ماكيناتها وتعطل تروسها.. لتتغير الصورة وتتبدل.. فهذه شوارع من المارة خالية.. وتلك ماكينات غابرة.. وهذه طُرق لمنطقة أخرى ليست إلا عابرة.. وعنابر على طول الطريق تسمع فيها أصوات البوم ناعقة.. تروس أقل ما توصف به من أصواتها خارسة.. كل هذا يدور فى ذهنى، فيعود بى شريط الزمن حتى استوقنى لأتذكر على الفور رئيسًا فى ١٠ سنوات قام بثورة صناعية، وآخر ضيع ٣٠ عامًا فأوقف فيها قطار التطوير والبقية الباقية، وأكثر فيها من السلبيات التى كانت تحتاج لأيدٍ قوية، بل قام بثورة الخصخصة والمعاشات المبكرة.. بثورة على المصانع.. بثورة على الماكينات.. بثورة على التطوير.. بثورة لزيادة السلبيات، لا إزالتها.. بل ثورة على العمال.

وختامًا.. هذه صورة أمام عينى عشتها فى سن مبكرة، ترصد بقايا ثورة صناعية، بعيدة عن نقد الذات والأشخاص، وما ثبّتَ قلبى على هذا الرأى إلا عينى. ألم يقل إبراهيم لربه «أرنى» بعينى.. فرد ربه وقال «أَوَلَمْ تُؤْمِن؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي».. وأخيراً.. فلكل منا عقل ورأى.. وعين ونقد.