على فكرة
تغير الزمن وتبدلت الأحوال، حتى ولو كانت التغيرات قليلة، فهى تغنينى، لأنها جاءت معها بزمان الرضا والصفح والإنصاف. وبعدما كانت أجهزة الأمن تطارد الشاعر أحمد فؤاد نجم، وتصادر قصائده وتمنع أغانيه وتقاطعه صحف بلده وتليفزيونها وإذاعاتها، برغم انتشارها فى أنحاء العام العربى، ووسط الجاليات العربية فى الغرب، وتحيله الدولة إلى محاكم عسكرية بسبب بعض أشعاره، وتضعه فى السجن مع رفيقه الشيخ إمام،ها هى إذاعة الأغانى التابعة للهيئة الوطنية للإعلام الرسمى، تحتفل قبل يومين فى مفاجأة سارة، من مفاجآتها السعيدة المتكررة هذه الأيام، بالذكرى 12 لرحيله.
وقبل سنوات، حين بدأ نجم كتابة فصول من مذكراته التى صدرت فيما بعد بعنوان «الفاجومى» حل على منزلنا زائر فى موعد متأخر من الليل. كان لدينا بعض الأصدقاء يستعدون للمغادرة، بعد سهرة ليلية ممتعة. وأثناء ما يهمون بالرحيل، دق جرس المنزل على غير توقع، وما أن فتح أحدهم الباب، حتى اندفع احمد فؤاد نجم كالصاروخ إلى الداخل، وهو يمسك بتلالبيب الضيوف ويدفعهم دفعا للعودة إلى مقاعدهم موجها حديث إليهم : إنتم رايحين فين يا اولاد الكلب انا بأكتب مذكراتى، اقعدوا عشان تسمعوا.
تحلق « أولاد الكلب» حول نجم، وجميعهم يعلم كم هو حكاء عظيم، وقد بدأ فى قراءة للفصول المنتهية من مذكراته. كانت القراءة تمزج بين الصوت والحركة، فى مشهد تمثيلى بالغ الدقة فى الدلالة على ما يروى من وقائع، ويحفل بالسخرية وخفة الظل والروح.
كان نجم وهو يقرأ، يستخدم كل أدوات التعبير بلغة الجسد الحركية والصوتية التى يتقنها الممثل البارع. فيقوم ويقعد، ويتحنن صوته ويتهجد، ويخشن ويغلظ، ويعلو ويهبط، ويشير بأصبعه الأوسط، ويصدر أصواتا مستهجنة عن بعض وقائع ذكرياته، فامتد بنا السهر حتى مطلع الفجر، مصحوبا بموجات لا تتوقف من الضحك الصاخب، الذى يجلب الدموع. وبعد أن انتهى من قراءة نحو فصلين من مذكراته، لفت «صلاح عيسى « انتباه نجم،إلى ان بعض الصياغات الواردة فى المذكرات يمكن أن تقوده إلى السجن، أو تغرمه مبالغ طائلة، ليس بسبب السياسة هذه المرة، ولا بتهم اسقاط النظام أو إهانة رئيس الدولة، بل بسبب انطوائها على سب وقذف. والسب هو اطلاق وصف على شخص، من شأنه، أن يمس شرفه، ويحط من قدره بين قومه،. أما القذف فهو إسناد فعل لشخص لو صح لعوقب عليه قانونا. وكان من غرائب الكون المدهشة، أن امتثل نجم لبعض تلك النصائح، وحذف بعض العبارات المفخخة، وهو العنيد الذى كان عصيا على التطويع. فحين كان يكتب تختفى الحسابات من قاموسه الشعرى والنثرى لهذا، خاصم كل اغراءات «المؤسسة» الرسمية.
لكن إحدى هيئات «المؤسسة» صالحته، وتصالحت به مع نفسها. وإذاعة الأغانى بعد أن برأت من حالات الرتابة والكسل، وأدركت أن إدمان الركاكة والهيافة، يتلف السمع،غدت تعيد إلى أسماعنا وروحنا مؤخرا، رصيدنا من التراث الغنائى المصرى، لحنا وشعرا وغناء. وحين نستمع إليه تعثر آذاننا على أصوات ونغمات تتطابق مع الكلمات، وتمتلك القدرة والصدق للتعبير عن أوجاعنا وأفراحنا، كان من الطبيعى أن تحتفى بذكرى رحيل نجم. وحين تصاعد من موجتها صوت محمد الحلو يشدو جزءا من واحدة من أجمل قصائده غزلا فى مصر، كتبها أثناء غربته، شعرت بأن الإذاعة تطبطب على مشاعرنا، وتعيدنا إليها من أوسع الأبواب : محبة الذوق الراقى الرفيع، محبة بلدنا، ورحت أغنى مع الحلو، محاذرة أن يسمعنى أحد: أهيم شوقا، أعود شوقا، إلى لماكى وسلسبيلى، هربت منك لقيتنى فيكى، بعدت عنك، قربت ليكى، سهرت وحدى اتونست بيكى، غلب حمارى وتاه سبيلى.