عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

نحو المستقبل

يأبى القلم أن يكتب هذا الأسبوع إلا عن د. محمد حمدى إبراهيم أستاذ الدراسات الكلاسيكية وعميد كلية الآداب جامعة القاهرة ونائب رئيس الجامعة الأسبق الذى فقدناه يوم الاثنين الماضى، هذا العالم الجليل والأستاذ الفذ الذى أعطى عمره كله ووقته كله وإخلاصه كله لعلمه وتلاميذه وكليته وجامعته، فكان علمًا ورمزًا لجيل كامل من أساتذة كلية الأداب جامعة القاهرة العظام الذين أتمنى لو تمكنت من الكتابة عنهم جميعًا، أنه واحد من الجيل الذى تعلمنا على يديه تقديس العلم واحترام العلماء وعلمهم، فضلًا عن أخلاقيات العلم والبحث العلمى، ولم ينفصل لديهم ذلك عن القدرة البارعة على الإدارة الحكيمة الراشدة فى كل المناصب العلمية التى تولوها.

لقد كان من حسن حظى أن تتلمذت على يد هذا الجيل المتميز من أجيال كلية الآداب العريقة التى كانت ولا تزال حاملة مشعل التنوير الفكرى والتميز العلمى ورائدة كل جديد على الساحتين المصرية والعربية وهى للعارفين بتاريخها العريق ذات الفضل الكبير على الكثيرين من خريجيها فى أركان العالم الأربعة. لقد عاصرت د. محمد حمدى إبراهيم وهو لا يزال مدرسًا شابًا وإن توطدت معرفتى به بعد أن تخصصت فى الفلسفة اليونانية فكان على أن أحضر دروسًا فى اللغة اليونانية القديمة لأستطيع فك رموزها وقراءة وتحليل نصوص فلاسفة اليونان، ولما ذهبت للقسم المختص لم أجد إلا هو وقد تحلق حوله بعض طلاب الدراسات العليا وكأنه يعطيهم درسًا خصوصيًا، فسألته أن كان بإمكانى أن أحضر معه محاضرات الفرقة الأولى؟، وإذا بى اكتشف أنه يعرف أنى ذلك الطالب المتفوق الحاصل على امتياز فى قسم الفلسفة الذى عين معيدًا هذا العام ! لقد رحب بى بشدة قائلًا: أنت مكانك بين هؤلاء الباحثين الكبار وبسرعة استدعى عامل القسم ليهدينى قاموسًا ضخمًا للغة اليونانية وأجلسنى بين طلابه وأعاد لى ما شرحه لهم وأخبرنى أنه سيساعدنى فى أى شىء أطلبه طوال دراستى لأنه يعرف مدى صعوبة التخصص الذى تخصصت فيه رغمًا عنى وهو الذى سمع قبل ذلك عن هروب معيدى قسم الفلسفة السابقين منه! وللحق فقد تحقق ما وعدنى به وظللت أداوم على هذه المحاضرت وألجأ إليه بالذات فى ترجمة أى نص من النصوص الفلسفية المعقدة التى يحتاجها أى بحث لى فى هذا الموضوع أو ذاك، وكم لاحظت سعادته ووجهه البشوش المرحب دائمًا مهما أخذت من وقته وفى أى مكان وبلا حدود. 

وهكذا ظل يرعانى د. حمدى حتى حصلت على الدكتوراة وبدأت أكتب أبحاثا وكتبا وظل يتابع باهتمام كل ما أكتب ويناقشنى فى توجهاتى الفكرية التى اختلفت شيئًا ما عن توجهاته فهو كان شديد الحب والولاء للفكر اليونانى ومواطن الاعجازفيه بينما كنت أنا أميل إلى رفض المعجزة اليونانية وأبحث دومًا عن المصادر المصرية والشرقية لكل فكرة فلسفية لدى فلاسفة اليونان، وللحق أيضاً فلم يكن يضيق بذلك رغم قلقه علىٍ من خطورة هذا المنحى الجديد الذى استحدثته فى دراسة الفلسفة اليونانية! والطريف أنه كان شاهدًا على ما حدث لى من مضايقات من أساتذتى بهذا الخصوص سواء فى تأخير ترقيتى أو اتهامات ظالمة لى وكان أهمها وهو يشغل منصب عميد الكلية، وكم كان سندًا وحاسمًا فى مواقفه العلمية والإدارية على حد سواء ليس معى فقط بل مع كل تلاميذه والمحيطين به وفى كل المناصب التى تولاها فى الجامعة أو خارجها، وكم كان يسترشد ويستخدم الفكر والشعر اليونانى حتى فى أشد المواقف وأعقدها وكان دائما ما يجد ضالته لحل أى مشكله فى العودة إلى حكمة اليونانيين القدامى وفلسفتهم! ولما كنت أعرف مدى تواضعه الجم وخجله الجميل من أن يطلب شيئًا من أحد، فقد عرضت ترشيحه لجائزة الدولة التقديرية فى الآدب وقت رئاستى لقسم الفلسفة ووافق المجلس بالإجماع وتم ترشيحه من مجلسى الكلية والجامعة العارفين بفضله لكنه قابل ذلك بالشكر والتشكيك من إمكانية الحصول على الجائزة بما يعلمه من مصالح وتربيطات تؤثر على ذلك بالمجلس الأعلى للثقافة وكم كان حصوله عليها مفاجأة سعيدة له شكرنى عليها ناسيًا أن كبار المثقفين المصريين يجلون أعماله كثيرًا ويفخرون بإنجازاته الفريدة المميزة. 

إن سيرة ومسيرة محمد حمدى إبراهيم العلمية ومترجماته الخالدة لعيون الأدب والفكر اليونانى ستظل شاهدًا أبديًا على أنه اختار الانحياز إلى كل ما هو أبدى خالد بعيدًا عن سفاسف الحياة وخيراتها المادية الزائلة. وكأنى به الآن يحلق بعيدا ناظرا إلينا من «عالم المثل» الأفلاطونى قائلا لنا: لقد سبقتكم إلى عالم الخلود الأبدى ولتحسنوا القول والفعل حتى تلحقوا بى واثقين من المصير الحسن لكل من يتقن العمل راجيًا وجه الله تعالى وحده.

[email protected]