نداء القلم
الفرق بين الفكرة والعقيدة هو أن الفكرة تُقبل وتُرفض، بمعنى أنه إذا كان من حقك أن تقبلها فمن حقى أنا أن أرفضها. بإمكانى أن أرفض العلمانية مثلاً أو الشيوعية أو الاشتراكية أو الليبرالية أو ما شئت أن تضيف أرفضها وأنا مطمئن إلى رفضى إيّاها. ولن يحاسبنى الله على رفضها أو قبولها؛ لأنها أفكار بشرية نابعة من عقول فكرت ودبرّت وٍرأت أن يكون سبيلها فى هذا المذهب أو ذاك؛ ولكن ليس من حقى أن أختلف مع العقيدة ما دمت قد اخترتها فى البدء طواعية لا إكراه فيها؛ «ولا إكراه فى الدين».
ليس بالإمكان أن يرفض المرء ديناً منزلاً من عند الله كان قد ارتضاه منذ البداية ثم يختلف معه ويقول : وجهة نظرى فى هذه الجزئية كذا وفى تلك كيت! إذا أنت فعلت ذلك تساوى عن جهل أو عن غفلة بين ما هو بشرى وما هو إلهى، أو بين ما هو قابل للنقد والاختلاف وما هو مقدَّس لا يقبل النقد ولا يقبل الاختلاف معه بحال.
وتلك لوثة عقديّة فى حق الإسلام : أن يكون الدين فى الذين يسمون أنفسهم بالإسلاميين - يقبل الرفض ممّن أرتضاه ديناً؛ لأنهم قد ساووا بين الإسلام كونه وحياً منزلاً من عند الله وبين سائر الأفكار البشرية المرفوضة بالعقل أو المقبولة؛ يعنى من الممكن رفض الإسلام من جهتهم، شأنه فى ذلك شأن أى فكرة بشرية أخرى، وبالتالى يكون الدين عرضة للاهتزاز الذى لا يعرف طمأنينة اليقين.
وكما تقام التفرقة بين الدين فى ذاته من حيث هو دين، وبين ما يتراكم على الدين من شروح وتفسيرات وتأويلات وتخريجات بشرية قد تتفق معها وقد تختلف لكنها لا ترقى فى المجمل إلى درجة الوحى المُنزّه عن التفسير البشرى، فليس فى هذا التفسير ما هو مقدس، وليس للبشر عصمة التقديس الذى لا يجوز معه النقد. ليس للفكر البشرى ما للدين المُنزّل من ثبات وخصوصية، الأول يُقبل أو يُرفض، يؤخذ منه ويرد. والثانى الذى هو الدين لا يمكن رفضه مطلقاً ما دمت قد ارتضيته بداية ديناً.
أقول؛ كما تقام التفرقة بين الدين فى ذاته وبين العلوم التى تقاوم على الدين، كذلك تقام التفرقة بين مجرى الفكر الدينى ومجرى العقيدة التى يدين لها المرء بالولاء. العقيدة الدينية تجرى على الثبات الذى لا يتخلله شك، وتتصل بالوحى اتصال الأصل بالمعتقد الدينى من طريق الوحى. وما يقام على الوحى من علوم تفسّره وتخرّجه إنما هو فكر دينى ولا يزيد. الأول مقدّس. والثانى ليس فيه تقديس لأنه فكر بشرى لا عصمة له، ولأن مجراه اجتهاد البشر ولا حيلة للبشر فى ضمان الصواب بإطلاق.
والخلط بين ما عساه يجرى هنا، وما عساه يجرى هناك، كارثة تنفّر خلق الله من رحمة الله. ناهيك عن أن تكون المناقشات عنفاً وعراكاً وجدلاً وخصومة، تظهر فيها السخائم السوداء وتثير شعور البغضاء بين أبناء الدين الواحد؛ وبدلاً من أن تجّمع تفرّق؛ والإسلام دين الوحدة لا التفرقة.
وإذ يطلق الإسلاميون على أنفسهم مصطلح «الإسلاميين»؛ أو يطلقه عليهم خصومهم السياسيين؛ سيّان لا فرق! انما هو اتجاه فكرى ضمن سائر الاتجاهات الفكرية المشابه، ينسب لأناس خرَّجوا الدين تخريجاً معوجاً مضطرباً، يخطئون فيه ويصيبون، ليس ملزماً لأحد إلا لهم هم فقط دون سواهم. ولا يعنى هذا الاتجاه مطلق الصّحة المنزهة عن الخطأ، ولا يعنى أنه المعبر وحده عن صحيح الدين، فإنّ صحيح الدين فضلاً عن كونه استقامة ظاهرة وباطنة، فهو يتوقف على الفهم والاجتهاد وادامة النظر والفكر والاعتبار واطالة الرؤى فى البحث عن المألات. وما من تخريج بشرى يمسّ ظاهر الدين إلا وفى عوالقه اضطراب يخضع للنقد والتمحيص، إذ كان تعبيراً عن اتجاه وتوظيفاً لمقاصد قريبة، ولم يكن تقديراً للحقيقة الكلية فى إطار مجرى الدين فى ذاته، وهو مجرى وحدة القصد التى هى الغاية من الدين على التحقيق.
ولا ريب أن وجود هذا الفكر الدينى المتطرف عموماً سيرجع بنا القهقرى إلى تخلّف العصور. هو هو وليس غيره من سيجعل الذى حدث فى الغرب فى ظلمات العصور الوسطى باسم الدين سيحدث فى عصورنا المعاصرة : أعطى ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، ولكن قصيراً عندنا - ياولداه! - لا يريد إلا أن يكون هو هو الله.
ولأمر ما تخلّفنا وتقدَّم الناس.