يُفهم من هذا العنوان معنيان: الأول أن للوطن حرمة كحرمة الدين والعقيدة لا يمكن المساس بها، وله من ثمّ قداسته كقداسة الأديان، ولا يمكن بأية حال المتاجرة بمقدراته والعبث بمؤسساته؛ فمن يفعل مثل هذا، يكون كمن يعبث بالدين الذى يدين له بالولاء أو العقيدة التى ينتمى إليها ويلزم عنها ما يلزم من تبعات.
والمعنى الثانى: هو أن مصلحة الوطن تفوق سائر المصالح الفرديّة، وأن المصلحة العامة أعلى وأهم وأبلغ فى الدلالة من المصلحة الخاصّة، وأن الذى يتصدّى لمنصب أو مسؤولية يكون أقدر من غيره على تقدير هذا المعنى، وأكثر قدرة على التنازل عن مصلحته الخاصّة من أجل المجموع؛ فالتربح من المنصب أو الإساءة إلى المرؤوسين أو استغلال سطوته ونفوذه، أو العمل للمصلحة الخاصّة ونسيان مصلحة الوطن العامة، كل هذا عار على صاحبه وأى عار، وهو ضرب من الإرهاب بكل تأكيد؛ فما بالك فيما لو كان الأمر أخطر من هذا كله، وهو الاعتداء على مقدرات هذا الوطن ومحاولة إزالة معالمه الثقافية أو الحضارية، وتغييب دوره الريادى فى الواقع وفى التاريخ.
ليس هذا فقط، بل العمل على تشويه قيمه من خلال عمليات الإرهاب التى تتخذ لها أوكارًا مسمومة، لممارسة نشاطها الفاسد المفسد ممّا من شأنه أن ينصَبَّ فى النهاية بكل تأكيد لصالح صُنّاع العار الوطنى، لخفافيش الظلام، للفوضى التى سبّبتها أيدى التخريب والفساد والتآمر فى الداخل والخارج.
أخطر ما نواجهه حقيقة هو الإرهاب؛ سواء كان فى الداخل أو فى الخارج، وهو سبب الفقر والعوز والحاجة والضعف والانقسام. إرهاب التسلط بالمناصب والنفوذ فى الداخل، وإرهاب التآمر والتألب فى الخارج.
متخصصون نحن فى سحب بساط التفرقة والتشرذم وفرشه أمامنا على أرض الواقع؛ ليواطئ ما اختلفنا فيه لنطئه جيئة وذهوبًا كلما تمزَّقت بنا السُّبل وافترقت حتى ليبدو إننا لم نحسن سوى «لغة التمزق» ولم نُجد سواها، فإذا دار حوار بيننا واختلفنا، مزق بعضنا بعضًا فى غير رحمة، ولا تفهمنا منطلقاتنا الفكرية ولا بواعثنا النفسية والوجدانية، ولا توافقنا للوصول إلى المشترك الثقافى، ناهيك عن الحضارى.
وإذا اختلفنا على قيمة أو مفهوم تعاركنا فيما يشبه عراك الثيران! فلم يعد الحوار بيننا عفيفًا شريفًا يخلو من الشتائم النكراء بل يصبح حوارًا، كما اتفقنا، كحوار الطرشان، هذا ضرب خفى ظاهر من ضروب العار الوطنى يقوض دعائم التقدّم.
قالها الإمام الشافعى قديمًا فى حق الإمام الليث بن سعد الفقيه المصري: «اللَّيثُ أفقه من مالك لولا أن أصحابه لم يقوموا به». فلو كان الإمام الليث وجد من أصحابه من يناصره ويقف بجواره فى غير انقسام ومعاداة، لكان أفقه من مالك إمام المدينة، لكنها طبيعة التمزق والتشتت وقلة النزوع إلى الوحدة والتضامن والوقوف جميعًا إزاء التحديات على قلب رجل واحد. فكل تمزق وتشتت ونزوع إلى الفرقة والخلاف يسهم فى إذكاء صناعة العار الوطنى بوجه من الوجوه.