عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

إذا أردت أن تتعرف على فكر وثقافة شعب ما فتأمل قائمة أولويات هذا الشعب واهتماماته، وماهى القضايا الأكثر تأثيرًا فى حياته. وقد وفرت علينا مواقع التواصل الاجتماعى وبرامج التوك شو مشقة القيام بعشرات الأبحاث لمعرفة جدول أعمال وانشغالات المصريين اليوم.. واسمحوا لى بداية أن أجزم بأن هناك من «يشتغل المصريين» ويشتغل من اشتغالات، وهو تعبير دارج يستخدمه البعض للتأكيد على أن ما يقوله فلان لفلان مجرد اشتغالة أو خداع «ضحك على الذقون».. أغنى دول العالم مرعوبة حكومات وشعوب من شبح أزمات اقتصادية ستعصف بها، وسيفقد الملايين فرص عملهم.. هذه الشعوب عيونها وأفكارها معلقة بتباشير ومقدمات مستقبل لا يبدو واعدًا كما تمنت، ولا حديث لها إلا عن كيفية مواجهة مصير صعب يكشر عن أنيابه ويقترب من معاشهم يومًا بعد يوم، والمواجهة فى ثقافة هذه الشعوب بأسلحة العلم والعمل وليس بنبابيت فتوات الكلام.

جل المصريين انشغلوا لأسابيع عن مشكلاتهم وهمومهم بمؤخرة سيدة وصفتها بـأنها مختلفة بعض الشيء عن باقى مؤخرات سيدات جيلها، وهذا حقها، أما جمهور المنشغلين فيعوضهم الله خيرًا.. جل المصريين يتصيدون الأخبار من وسائل التواصل الاجتماعى ليعيدوا عجنها وخبزها ما بين مغامرات عنتيل لا يشق له غبار فى الوقاحة، وهلوسات رياضى لا مثيل له فى البجاحة. جل المصريين منشغلون بفتاوى تافهة لبعض شيوخ الضلال والتضليل، وما إذا كانت معاقبة الرجل الذى يضرب زوجته بالسجن أمرًا يتفق مع الشرع ونصوصه أم مخالفًا.. وعليه يجب الاستمرار فى تكسير عظام الحرائر والإماء.. جل المصريين مرهقون ومتعبون وهم يحملون صخرة «سيزيف» للإمساك بقمة «الهضبة» وبقلبه وبرج حوته، وسؤاله بسؤال شاعرنا الجميل كامل الشناوى «أنت قلبى فلا تخف وأجب.. هل تحبها».. جل المصريين انتفضوا متسائلين عن العدالة للاقتصاص من ابن رجل أعمال دهس شابة وسائقها، رغم أنهم جميعًا مدهوسون منذ قرون أبًا عن جد، ولم يسألوا ولو مرة واحدة عن الحق العام فى العدالة والحرية والعيش الكريم والمساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع.. جل المصريين يسهرون كل مساء أمام مذيعى ومذيعات التوك شو الذين يحددون كل ليلة جدول أعمال مشاهديهم فى اليوم التالى من خلال قصاقيص حكايات الحارات الضيقة، والآمال الضيقة– حكايات صغيرة وباعثة على الملل ولا تليق بشعب تجاوز المائة مليون، ولا ببلد تجاوز عمره الخمسة آلاف سنة.

- نحن ضحايا اختياراتنا السطحية، واستسلامنا لأراجوزات بأسواق الإعلام والثقافة يسوقون الناس ما استطاعوا إلى زرائب نفايات عقولهم.. الأمريكيون واليابانيون وبينهم الأوربيون منكبون على البحث عن مخرج من أزمات اقتصادية حقيقية، وفى الغالب فإن نصف الحل على الأقل سيكون بإعادة استغلال الشعوب المنشغلة عن مستقبلها بمؤخرة ماضيها البعيد.. وعلى ما يبدو أن هناك ارتباطًا كبيرًا بين «النوستالجيا» التى تعنى الحنين إلى الماضى، وبين الانجذاب لمؤخرات كل شيء.. مثلًا نحن مدمنون فى الكثير من مجالات التنافس الإنسانى بمؤخرة الترتيب، وفى مجالات الفكر لا يشدنا العصر وجديده بقدر ما نغرق فى هلوسات الماضى البعيد التى تبرز بجسد المشهد فى موضع المؤخرة.. روعة أى امرأة يمكن أن تلهب وتلهم عقل أى شاعر ومبدع ليس فقط بجمالها المدهش وحده، ولكن قبله وبعده الذكاء الأنثوى الذى يضيف للمرأة طبقات جديدة من الأنوثة القادرة على «كهربة» جبل من الرجال.. لماذا يأسر جل المصريين حديث المؤخرات، وينصرفون بها عن إغراءات المستقبل بالسباحة المبكرة إلى شواطئه متسلحين بروعة المبادرة والمغامرة.. نعم حياتنا منذ أكثر من نصف قرن تعانى حالة جفاف وعقم ثقافى متأثرة بموت الحياة السياسية التى هى الباعث الحقيقى على التجديد والتحدى.. ولكن ما ساعد على استئناس حالة الموت هذه هى تلك الثقافة القبورية المتأصلة التى خطفت أجيالًا من على شواطئ المستقبل لتلقى بهم فى سراديب الماضى وتحشرهم حشرًا بمؤخرة التاريخ غير عابئين بأن صدر الحياة النافر يمنحنا معانى ومشاعر جميلة لهيبة اللحظة وسمو المشهد.