رؤى
المتابع لكتابات الجاحظ، يضع يده بكل بساطة على إشكالية احتلت مساحة كبيرة من تفكيره، وهى علاقته الشائكة بكتاب ونقاد عصره، فقد كانت شديدة التعقيد، مشحونة بالكراهية، والدسائس، والتشويه، ووصلت إلى حد التسفيه، والسخرية، ووضع القصص بأسماء الغير،
والواضح من كتابات الجاحظ(ت 255هـ) أنه كان يقلل وبعنف من شأن معظم معاصريه، سواء كانوا من النقاد، أو الرواة، أو حتى كتبة الأمراء والسلاطين، ومؤلفات الجاحظ مليئة بفقرات مدببة غرسها فى لحم خصومه، فقد طعن فى حجم وقيمة وكرامة العديد من الشخصيات المقربة للحكام، ووصل فى خصومته إلى تأليف بعض الكتب والرسائل ووضع أسماء بعض الشخصيات الراحلة المشهورة عليها، وذلك لكشف خصومه والسخرية منهم، وإظهار جهلهم.
فى رسالة «فصل ما بين العداوة والحسد» بدأ الرسالة بالتمييز بين الكاتب العالم، والكاتب المزيف، فيصف العلماء بقوله:» لم يخل زمن من الأزمان، فيما مضى من القرون الذاهبة، إلا وفيه علماء محقون، قد قرءوا كتب من تقدمهم، ودارسوا أهلها، ومارسوا الموافقين لهم، وعانوا المخالفين عليهم، فمخضوا الحكمة وعجموا عيدانها، ووقفوا على حدود العلوم، فحفظوا الأمهات والأصول...»، على النقيض يقف المزيف الحاسد:» منتحلة يدعون مثل دعاويهم، قد وسموا أنفسهم بسمات الباطل، وتسموا بأسماء العلم على المجاز من غير حقيقة، ولبسوا لباس الزور متزخرفين متشبعين بما لا محصول له. يحتذون أمثلة المحقين فى زيهم وهديهم، ويقتفون آثارهم فى ألفاظهم وألحاظهم، وحركاتهم وإشاراتهم، لينسبوا إليهم ويحلوا محلهم، فاستمالوا بهذه الحيلة قلوب ضعفاء العامة، وجهلاء الملوك، واتخذهم المعادون للعلماء المحقين عدة يستظهرون بهم عند العامة. وحمل المدعية للعلم المزور الحسد على بهت العلماء المحقين، وعضهم والطعن عليهم».
الجاحظ لم يكتف بهذا بل قام بتأليف رسالة لذم خصومه من الكتاب بشكل عام وكشف زيفهم، خاصة الذين تم اختيارهم ككتبة للحكام، وصلتنا الرسالة بعنوان» فى ذم أخلاق الكتاب»، استهلها بتوضيح الهدف من تأليفها وهو كشف:» رداءة مذاهب الكتاب وأفعالهم، ولؤم طبائعهم وأخلاقهم»، ولتأصيل رأيه فى الكتاب عاد إلى عصر الرسول عليه الصلاة والسلام مذكرا بأول كاتب فى الإسلام:»ما ظنك بقوم منهم أول مرتد كان فى الإسلام، كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخالف فى كتابه إملاءه، فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتبا، فهرب حتى مات بجزيرة العرب كافرا، وهو عبد الله بن سعد بن أبى سرح».ثم يخلص من شواهده إلى التعميم، بقوله بأن الكتابة:» لا يتقلدها إلا تابع، ولا يتولاها إلا من هو فى معنى الخادم».