رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات

تعرفت على أدب نجيب محفوظ فى فترة متأخرة نسبيًا من عمرى. كان ذلك بعد تخرجى من الجامعة مباشرة، من خلال بعض الأصدقاء الذين عملت معهم فى قطاع الأخبار بالتليفزيون المصرى خلال النصف الثانى من ثمانينيات القرن الماضى. كنت أعيرهم كتبًا سياسية ودينية، وكانوا يعيروننى روايات لكبار أدبائنا، إلى أن انتهى الأمر باقتصار استعاراتى على روايات نجيب محفوظ فقط.

ولذلك حينما فاز بنوبل عام 88 كنت فى صورة معقولة على صعيد قراءة رواياته. وبعد ذلك أصبح محفوظ بالنسبة لى الروائى الذى يحتكر اهتمامى بقراءة الرواية على صعيد الروائيين المصريين، مع كل التقدير لأعمال الآخرين، إلى جانب روائيين آخرين غير مصريين منهم عبدالرحمن منيف على المستوى العربى، وماركيز على مستوى أدب أمريكا اللاتينية، وكانتزاكس على مستوى الأدب الأوروبى- اليونانى.

وفى ضوء طبيعة شخصية محفوظ وما قدمه من أدب، فإنه سيظل مفتوحًا على الاجتهادات والتناول بأشكال مختلفة. وفى هذا الصدد أشير إلى أنه فى ظل ما تيسر لى من قراءة معظم أعمال الرجل، فإن هناك عملين محددين استوقفانى بشكل كبير فى ضوء ما يشيران إليه من مفارقة بين طبيعة شخصية الرجل ومضمون أعماله.

لقد عاب الكثيرون على محفوظ أنه كان رجلًا أقرب لأن يكون موظفًا، وأنه اتسم بالروتينية بشكل يتناقض مع حجم التأثير الذى عكسه كأديب كبير، وأشاروا فى ذلك إلى نمطية حياته بما فى ذلك جلساته التى كان يعقدها مع حواريه ومحبيه، وربما صادق على هذه الرؤية الوصف الذى أطلقه عميد الأدب العربى على محفوظ بأنه «ملتزم». وبغض النظر عن حجم الصحة فى هذه الرؤية، إلا أن الشخصيات التى تترك أثرها فى التاريخ، سواء كان زعيمًا سياسيًا أم فيلسوفًا أم أديبًا أم عالم دين، لا يجب أن يتم النظر إليها على ضوء سلوكها الشخصى بالأساس، وإنما بالنظر إلى ما تقدمه من إسهام فى مجال نظرة الجمهور لها.

وعلى هذا الأساس يمكن القول إن الرجل تعامل بشجاعة، ربما افتقدها آخرون مع قضايا مجتمعه على خلاف ما هو مفترض من رجل ينظر إليه باعتباره نمطيًا أو موظفًا، وقد بدا ذلك أوضح ما يكون فى حدود ما أراه فى روايتى «أولاد حارتنا» و«الكرنك». فى تقديرى وبعيدًا عن الاختلاف الكبير فى النظر لرواية أولاد حارتنا، فإن الرواية تمثل نوعًا من محاولة مواجهة سلطة المجتمع فى النظر لقضية الدين ودوره فى حياة الإنسانية. ولأن محفوظ يدرك تمام الإدراك أن رؤيته تلك ستواجه بقدر من الرفض الذى ربما يصل إلى حد الإدانة فقد قدم رؤيته بشكل رمزى، وهو ما يعكس جانبًا من عبقريته، بشكل يصعب معه أن تضبطه متلبسًا بالإساءة إلى الدين، هذا بغض النظر عن طبيعة موقفنا أو موقف غيرنا مما قدمه.

ربما يبدو تناوله فى رواية «الكرنك» أكثر حكمة ورزانة، ورغم ما فيها من حرص على إيثار السلامة، إلا أنها أيضا تعكس رفض أن يكون المرء سلبيًا حتى ولو بعد حين! لقد رصد محفوظ فى الرواية سوءات نظام الحكم فى الستينيات بشكل رائع وقدم صورة بالغة المأساوية لما وصل إليه الحال آنذاك من القبض على الأبرياء وتلفيق تهم مختلفة لهم من بينها الانتماء لتنظيم الإخوان، فضلًا عن السيطرة على الإعلام لحد إشارة أحد أبطال العمل إلى أن الصحف الثلاث التى كانت تصدر آنذاك ذات عناوين واحدة وتحولها لما يصبح نشرات، هذا فضلًا عن تغيبب العمل الحزبى.

باختصار كشف محفوظ فى هذا العمل كل عيوب نظام أبى إلا أن يضيق المجال العام أمام مواطنيه بدعوى مواجهة أعداء الداخل والخارج وكانت فلسفته، كما يقول أحد أبطال الرواية، تقوم على التضحية بالحرية والقانون ولو إلى حين! لقد راح محفوظ، على لسان طه الغريب أحد شخصيات الرواية، يلعن نظامًا أبدع فى نشر الرعب، ولم يصل حال المجتمع خلال قيامه على إدارة دفة الحكم إلى مثل حالته فى أى عهد من العهود.

عندما قرأت الرواية لأول مرة منذ عقود، هالنى شجاعة محفوظ فى أن يقدم مثل هذه الرؤية دون خوف أو وجل من أن يتم التنكيل به من قبل النظام الذى يكيل له الانتقادات فى روايته. ولكن بعد أن فرغت من القراءة ودققت فى توقيت نشرها تبينت أن ذلك تم بعد انتهاء حقبة عبدالناصر وبدء نظام جديد هو نظام السادات الذى فتح مجالًا واسعًا للحريات فى بدايات عهده.

كان السؤال الذى مر على ذهنى: وماذا لو أن محفوظ قدم ذلك العمل فى ظل وجود النظام الذى ينتقده؟ لا شك أن مصيره كان الاعتقال، وخسارة المجتمع لأديب كبير بحجمه وقامته، حيث قدم لنا فى العقود التى تلت حكم عبدالناصر الكثير من الأعمال الرائعة التى ربما كان من الممكن أن نخسرها لو أنه تم تغييبه بالإعدام مثلًا أو بالاستمرار فى السجن.

ليس عيبًا أن محفوظ لم يكن ثوريًا فى سلوكه، ولكن ربما كان العيب كل العيب ألا يكون واعيًا بقضايا مجتمعه وراصدًا لها ولتشابكاتها. وأتصور أن تلك هى الفضيلة التى لم تكن غائبة عن محفوظ سواء فى أعماله أو حتى فى تعاطيه مع الشأن العام على أرض الواقع.

[email protected]