رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات

نشأت مع تفتح وعيى فى دراسة الفكر على القلق من اسبينوزا (1632-1677) وفلسفته، والتى تنطلق كما تم تقديمها لنا من النقد التاريخى للكتب المقدسة ممثلة بشكل أساسى فى التوراه والإنجيل .كان ذلك مع توسع اهتمامى بهذا الحقل الدراسى فى المرحلة الجامعية خلال دراسة مادة الفكر السياسى على يد الدكتورة حورية توفيق مجاهد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. فاسبينوزا هو الذى دشن تلك العملية بما لها من تداعيات فى الفكر الغربى بل والإسلامى حتى الآن. كان خوفى فى ذلك الوقت – وما زلت شابا فى مرحلة بدائية الفكر -  أن يمتد ذلك إلى القرآن بما له من مكانة مقدسة لدينا كمسلمين، دون أن انتبه بحكم كونى مبتدئ إلى أن هذا الأمر دشنه مستشرقون مختلفون مثل نودلكه وغيره، وهو الأمر الذى طوره، دون نجاح يذكر، فى فضائنا الفكرى الإسلامى المفكر الجزائراى الفرنسى الراحل محمد أركون.

مع زيادة قراءاتى لفلسفة إسبينوزا بدا لى مفصليته فى تاريخ الفكر عامة، وأنه إذا كان يؤرخ لتاريخ الفلسفة الغربية الحديثة بما قبل وبعد الفيلسوف الألمانى كانط، على غرار التأريخ للفلسفة اليونانية بما قبل وبعد الثلاثى «سقراط وأفلاطون وأرسطو»، فإن التقسيم الأول ربما يكون فيه ظلم لإسبينوزا باعتبار انه صاحب الثورة الجذرية فى الفكر الدينى فى العصر الحديث. تغيرت نظرتى بشكل كبير، وهو أمر وارد فى تطور فهم وفكر الفرد للقضايا التى يهتم بها، عندما توغلت فى الظروف التى أنتج فيها فكره، وهى ظروف بالغة الصعوبة وتنبئ عن حالة فريدة من حالات تقييد حرية الفكر.

ورغم تعرض أغلب من كتبوا عن اسبينوزا لهذه الظروف، إلا أن الراحل الدكتور فؤاد زكريا قدمها بشكل بالغ الدقة فى أكثر من موضع خاصة فى الكتاب الذى ألفه حول ذلك الفيلسوف الهولندى الكبير، وهو تناول يكشف لك عن القوة التى تتمتع بها السلطة الزمنية والسلطة الدينية على وجودنا فى مختلف العصور، وأنه إذا كان افتراقهما وتعارضهما فى العصور الوسطى المظلمة فى اوروبا مصدر وبال، فإن اتحادهما فى مواجهة فليسوف مثل اسبينوزا ربما يشير إلى خطورة مثل هذا التحول، وأنه كان أكثر وبالا!!

يشير زكريا فى تناوله لهذا الجانب من سيرة حياة اسبينوزا إلى أن الجو فى ذلك العصر كان يحتم على الكاتب إما أن يتمشى مع الآراء السائدة أو أن يكون حذرا فى كتابته ويضع قناعا على شخصيته الحقيقية. ووصل الأمر باسبينوزا إلى حد أنه فى حذره راح يخفى إسمه من على كتاباته، وراح ينقش كلمة الحذر على خاتمه وجعل هذه الكلمة شعارا له فى حياته. ليس ذلك فقط بل إن هذا الخوف انعكس على أسلوب كتابة إسبينوزا فراح يكتب بشكل يفصل زكريا فى شرحه وملخصه أنه كان يكتب بلغة مزدوجة يفهمها الخاصة على نحو، فيما يفهمها العموم على نحو آخر،  حتى لا يتم ضبطه متلبسا بنشر ما لا تقبله السلطات.

وفضلا عن نبذه من طائفته اليهودية على خلفية أرائه الدينية، فإن إسبينوزا كان يشعر بخطورة أرائه السياسية والتى راح خلالها يؤكد على أن الغرض من إقامة أى نظام سياسى ليس القهر أو أخضاع الشعب لنير الفرد، وأن أفضل النظم السياسية هى التى تسمح للفرد بحرية التفكير رغم ما قد تسببه هذه الحرية من متاعب للسلطات، إلا أن هذه المتاعب أقل بكثير مما لو سلب المواطنون هذه الحرية.

 الأكثر مأساوية أن تبنى أفكار اسبينوزا اتخذ شكلا أقرب إلى المذهبية حتى أن البعض كان يمكن وصفهم بانهم «اسبينوزيين». هنا يشير زكريا إلى أن قمع حرية الفكر آنذاك وصل إلى حد أن الإسبينوزية أصبحت فى ذلك العصر تهمة تلقى جزافا على كل رأى يراد قمعه أو كل شخص يراد التنكيل به أو كل انحراف عن النظام السائد سواء فى الدين أو السياسة. وبمنطق المفكر الذى يقدم دروس الفكر يسقط فؤاد زكريا الماضى على الحاضر قائلا : أنه من الواضح أن

لـ «الاسبينوزية» فى هذه الناحية مقابلا يناظرها فى عصرنا هذا إلى حد بعيد.

ولأن اسبينوزا كان مكروها عند السلطة بنوعيها، فقد وصل الأمر إلى حد أن فيسلوفا مثل ليبنتز بكل قدره كان يحاول أن يتواصل معه ولكن فى السر وكأنها علاقة غير شرعية، الأمر الذى لا يبدو قائما سوى بين الرجل والمرأة !! . وقد كان كتاب ذلك الزمان يتبارون فى انتقاد مذهب اسبينوزا وسب صاحبه تملقا للسلطات المسيطرة. أما اذا اشتبه فى أن مفكرا معينا كان يعطف على اسبينوزا فقد كان هذا المفكر يسارع الى تفنيد اسبينوزا والحملة عليه علنا ويتخذ من ذلك وسيلة لتبرئة نفسه أمام الرأى العام وأمام السلطات المدنية والدينية.

بعد قرون على رحيل اسبينوزا ورغم محاولات وأد فكره، إلا أن ما قدمه ساهم فى تغيير مسار البشرية. إذا كان ذلك فى عصر لم يكن على ما هو عليه العالم من تقدم فى الوقت الراهن، فلك أن تتخيل عبث محاولة أى نظام معاصر قمع حرية الفكر فى عالم الإنترنت وتطور وسائل التكنولوجيا!.

[email protected]