رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

في لندن ذهبنا إلي حيث يقيم «السعدني» في شقة بشارع اسمه «سيل بلاس»، اكتشفنا انها لصديقه نور السيد الذي يعمل في السفارة المصرية في لندن.. وقد تعرف «السعدني» علي «نور» منذ سنوات بعيدة في منتصف الستينيات، ولفت نظره أن «نور» علي الرغم من سنوات إقامته في بلاد الانجليز والحياة الرغدة التي يعيشها والملابس الباهظة الثمن التي يرتديها والفيلا والسيارات التي يمتلكها، فإنه يبدو لمن يراه كما اللورد الانجليزي شكلاً.. لكن في المضمون كان مختلفاً، فهو ابن بلد مصري أصيل يعرف أقدار الناس ويفهم في الأصول.. فقد ارتبط بـ«السعدني» منذ أن وقعت عيناه عليه للمرة الأولي.. وقد تحول «السعدني» بالنسبة للمقيمين في عاصمة الضباب إلي فاكهة.. وإذا كتب لسعادتك أن تقيم في لندن فسوف تمضي بك الأيام الأولي في اندهاش وانبهار وانذهال لا مثيل له، لأن لندن مدينة جميلة نظيفة منظمة، كل شيء بالدور وبالطابور ولا فضل لأحد علي غيره، وليست هناك واسطة ولا دياولو والجميع أمام القانون كأسنان المشط.. ومعرفة البيه مأمور لندن أو الباشا المحافظ بتاعها لا تودي هناك ولا تجيب.. لذلك فإن حالة العدل هناك يستطيع المصري والعربي أن يشعر بها للوهلة الأولي.. لكن ما أفقر الحياة نفسها بعد أن يزول الانبهار وتغادرك الدهشة وتصبح مقيماً في بلاد غريبة يكسوها الثلج في الشتاء ولا تري فيها الشمس إلا لعدة شهور قليلة للغاية، ويختفي النهار بعد ظهوره بعدة ساعات.. إنه الاكتئاب بعينه.. ولذلك فإن وجود شخص صاحب بريق وجاذبية وله خفة دم محمود السعدني وظله هو أمر شديد الأهمية، فحول شخصه اجتمع المصري والعربي المقيم منهم في عاصمة الضباب أو العابر، ومنهم نور السيد يعلم تمام العلم أن «السعدني» مغضوب عليه من قبل الدولة، وبالتالي من قبل الأجهزة فإنه لم يعر هذا الأمر أي اهتمام وحرص علي أن يمنح «السعدني» شقته القريبة من محطة «بادنجتون»، وكانت عبارة عن غرفتي نوم وصالة ومطبخ وحمام، وكان «السعدني» يدفع الإيجار البالغ في ذلك الوقت خمسين جنيهاً استرلينياً كل ثلاثة أشهر، ولا أخفي علي حضراتكم أن «السعدني» كان أحياناً يذهب ليدفع الإيجار فيفاجئه الموظف المسئول بأن أحدهم قام بدفع الايجار، وكان نور السيد يقسم بأغلظ الأيمان انه لم يدفع شيئاً ولم يعد حتي يعرف مكان دفع الايجار.. وبالطبع كان عم «نور» «كداب» فهو بحاسته التي لا تخيب كان يدرك في بعض الأحيان أن «السعدني» في أزمة ولهذا كان يسارع بالذهاب لدفع الايجار قبل موعده المحدد، وفوق ذلك أعطي نور السيد لـ«السعدني» سيارته «الأوبل» الزرقاء الدبلوماسية لكي يتحرك بها في عاصمة الانجليز، وأنت إذا اكتشفت وجود أي كارثة في المرور في أي شارع من شوارع لندن فاعرف أن «السعدني» يتولي القيادة فيه، فقد كان «السعدني» إذا تصدي لعملية القيادة يضرب فرامل عمال علي بطال ولا يرفع يده عن الكلاكس.. فإذا شاهد أحدهم علي الطريق وعلي بعد عدة كيلو مترات أمسك بالكلاكس وهات يا كلكسة ويكون العابر قد انتهي بالفعل من عملية العبور وربما ذهب إلي بيته وشرب كوباية شاي واستغرق بعدها في نوم عميق ولكن «السعدني» حتي هذه اللحظة يظل واضعاً يده علي الكلاكس وهو يقول: هو ابن المجنونة ده مش عارف إني معدي.. ولا إيه!!

وبالطبع كانت هناك كوارث تحدث بين الحين والآخر بسبب أن الشوارع في بلاد الانجليز معكوسة، فكنا دائماً «السعدني» وأنا نقع في حالة توهان فننسي اننا في لندن ونسير علي النظام في مصر، لكن الانجليز لأنهم شعب مهذب ومؤدب ومتربي فكانوا ينظرون إلي السيارة الدبلوماسية وإلي سحنتنا الشرقية ويبادرون هم بالاعتذار مع انهم لم يقترفوا أي خطأ علي الاطلاق.. ولكن كل هذه الأمور هانت وتحملت أنا شخصياً كوارث لا حدود لها بفضل الطريقة السعدنية في السواقة.. أقول.. هون علينا هذا الأمر أن السيارة قصرت المسافات، ومن خلالها استطعنا معرفة أصناف وأنواع من البشر لم أتصور أنني يمكن أن ألتقي بهم في عاصمة الضباب.. فقد ذهبنا كثيراً داخل أدغال وغابات واقتحمنا بلدات ومررنا بعدة بحيرات وحدائق تسرح فيها الغزلان وتوقفنا أمام منزل متواضع وطرقنا الباب ليفتح لنا رجل تفيض من ملامح وجهه طِيبة لا مثيل لها اسمه «إدجر فرج» وهو أستاذ مصري يقوم بالتدريس لطلبة جامعة اكسفورد ومتزوج من سيدة انجليزية وله منها بنت، واستطاع هذا الرجل أن يصل إلي أرفع المناصب في الجامعة العريقة.. وفي بيته اكتشفت اننا صحيح في الريف البريطاني لكن بتقاليد وأعراف الريف المصري.. فالرجل وزوجته الانجليزية يعيشان في قلب الريف البريطاني، أي نعم، لكن علي الطريقة المصرية.. فليس هناك مثلاً حاجة اسمها «البوي فريند» الذي يسرح ويمرح مع البنت علي الكيف ولا مجال هناك للسهر والعربدة.. وقد كانت الابنة قد تعدت العام الثامن العشر وهو ما يسمح لها بأن تستقل بحياتها وبأفكارها وبتصرفاتها.. إلا أن الفتاة الجميلة التي وقعت عيناي عليها كانت شديدة الطاعة لأبويها وكأنها قطة «سيامي» وديعة.. أما الزوجة فهي تقدم الزوج في كل الأمور عليها وتنتظر أن يبدأ هو بالأكل حتي تسير علي دربه.. بشديد الصراحة انبهرت بالعم «إدجر فرج» وانبهرت بأسرته وبيته الجميل البسيط وشعرت بفخر واعتزاز وأنا أقرأ الشهادات العلمية التي نالها وحصل عليها بفضل تميزه وعبقريته، وتمنيت لو أني أكبر من ذلك فى السن لأرتبط بهذه الفتاة الفائقة الجمال الفارعة الطول صاحبة الصوت المخملي والتي تكبرني بعشر سنوات.

وفي لندن أيضاً تعرفت علي رجل قال لي «السعدني» إنه «صحفي حقيقي» اسمه جلال سرور عمل في مجلة «آخر ساعة» لكنه فضل الاقامة في عاصمة الضباب.. وكان عم «جلال» رجلاً شديد الطيبة، شديد التهذيب، وكان يعمل بالترجمة علي ما أذكر واستطاع أن يشق طريقه في عاصمة الضباب ويوفر لأسرته حياة هانئة، وعلي الرغم من انه ابتعد عن عالم الصحافة بالكتابة إلا انه ظل وفياً للمهنة من خلال متابعة كل حرف تنشره الصحف المصرية وأيضاً الصحافة البريطانية والأمريكية والأوروبية، وكان محللاً من طراز فريد، فتشعر وأنت جالس إليه بأنه ليس مطلعا فقط علي أسرار الكون بك وربما يكون مشاركاً في أحداث ما يجري في الكون.. وفي بعض الأحيان كنت أشعر بأنني جالس في حضرة الأستاذ «هيكل» أو أحمد بهاء الدين وليس في حضرة العم جلال سرور.. وهناك أيضاً عرفنا الدكتور مصطفي الفقي الذي كان يشغل منصباً في السفارة المصرية وكان صديقاً للعم نور السيد، وكانوا جميعاً كلما اشتاقوا إلي الملوخية قاموا بزيارة «السعدني» في بيته في لندن.. والغريب أن «السعدني» استطاع الحصول علي طبلية في بلاد الانجليز فكان يعيش حياته ويمارس طقوسه وكأنه لم يغادر الجيزة لحظة واحدة.. واكتشفت أن «السعدني» حصل علي الطبلية من ولد مصري يعيش في لندن اسمه أحمد السحيتي وهو ينطبق عليه المثل القائل «سبع صنايع والبخت ضايع» وهو نموذج سوف يتكرر كثيراً مع شباب مصري سيكتشفهم «السعدني» خلال زياراته في لندن.. ولكن والحق أقول إن لندن اكتسبت بالنسبة إلي «السعدني» وشخصي الضعيف معلماً جديداً من معالمها وهو العم نور السيد الذي كان يشارك «السعدني» في مميزات عديدة، فكلاهما جاء من أصول بسيطة ومن طبقات طيبة أشد بساطة، وتربي «نور» و«السعدني» في الحي الشعبي، ومثل «السعدني» كان «نور» خفيف الدم لأقصي مدي، وعلي استعداد للموت من أجل ما يعتقد، وكان إذا دخل أمراً، كما كان حال معاوية بن أبي سفيان ما أراد الخروج منه أبداً، وإذا أحب أحدهم ارتفع به إلي مقام القديسين والأنبياء.. وآه لو أن سعادتك اكتسبت عداوة «السعدني» أو نور السيد.. سوف يخسفان بك الأرض، وربما نقبا الأرض السابعة ليجدا ما هو أعمق ليصبح هو مكان إقامتك.. وقد هون نور السيد علي «السعدني» الاقامة في لندن وجملها له، ويسر له عملية كان «السعدني» يخشي منها كثيراً ويعمل لها ألف حساب وهي مسألة تجديد جواز السفر، ولم يكن هناك أمر يستعصي علي العم «نور» في لندن، فأنت أياً كانت طلباتك فهي مجابة.. ونور السيد كان يعيش في حالة تحد مع الذات، فهو بمثابة خاتم سليمان، وبالمناسبة هو اسمه بالكامل نور الدين السيد علي سليمان، فهو إذا ما اشتكي أحدهم من أي مشكلة أو عقبة فإن نور السيد يجد نفسه في موقف المطالب بحلها مع أن صاحب المشكلة لم يطلب ذلك ولم يسع إليه، لكن شهامة نور السيد كانت تدعوه دائماً إلي حل جميع المشاكل التي يواجهها المقربون منه، ولذلك كانت جوازات السفر الخاصة بنا دائماً ما تجد الحلول الشافية عندما يتصدي لتجديدها العم نور السيد الذي أكد لـ«السعدني» أن نظام حكم الرئيس «السادات» ربما يعارض عودة «السعدني» كاتباً صحفياً ولكنه لن يهبط أبداً لمستوي عدم تجديد جوازات سفر أسرته.. وقد تأكد «السعدني» بعد ذلك من صدق كلمات نور السيد عندما انتهي جواز سفره وهم مقيم في بغداد، وتفضل القنصل العام المصري هناك بتجديد جواز سفر «السعدني» وهو يؤكد له انه لا توجد تعليمات بعدم التجديد.. وعندما حان الوقت لسفر الحاجة أم «أكرم» ومعها الشقيقتان الصغيرتان «هبة» و«حنان» وجلبت معها الشهادات الدراسية وشهادات الميلاد ومضي الزمن بنا في لندن ونحن لا نعرف علي وجه التحديد أين سنتلقي علومنا.. وكانت «هالة» تنتظر العملية الجراحية الأخيرة لها، وذات مساء علم «السعدني» من العم «نور» أن الأستاذ أحمد بهاء الدين  يزور لندن وانه يقيم بأحد فنادقها الكبري، وعلي الفور اتجه «السعدني» إلي حيث يقيم الأستاذ «بهاء» ووعده بأن يكون الحل قريباً، وبالفعل وبعد ثلاثة أيام دعا «بهاء» «السعدني» علي الغداء بصحبة وزير خارجية الامارات في تلك الأيام والمستشار الخاص لرئيس دولة الإمارات العربية السيد أحمد خليفة السويدي، الذي كان زميل دراسة لمصطفي الفقي وصديقاً حميماً للأستاذ أحمد بهاء الدين.. وعلي الغداء سأل الأستاذ «بهاء» «السعدني» عن أحواله المادية والاجتماعية في لندن، وأجابه «السعدني» انه يعيش في أرقي فنادق العاصمة ويستأجر سيارتين رولز رويس واحدة ليركبها والأخري ليتعايق بها، وانه يقضي أوقاته في صرف أمواله في أندية القمار ويوزع ما يتبقي منها علي المحتاجين والفقراء في لندن الذين يأكلون من القمامة.. ويندهش العم «بهاء» من كلمات «السعدني» الجادة ويعود ليسأله: يعني أنت أحوالك كده فعلاً؟!.. وهو يؤكد بعصبية علي انها الحقيقة بعينها: «الله.. وأنا ح أضحك عليك ليه يا عم (بهاء).. أنا بس اليومين دول في أزمة لأن الحاجة أمي مابعتتش الحوالة أصلها عقبال أملتك باعت عمارتين علي النيل من ورثها وحتبعت ليّ حقي قريب، ولو عاوز أي حاجة يا عم «بهاء» أنا جاهز!!.. واستأذن «السعدني» في الانصراف وغادر الفندق وهنا مال أحمد خليفة السويدي علي الأستاذ «بهاء» ليسأله: هي دي أحوال «السعدني» اللي حكيت لي عنها؟!.. ويضحك الأستاذ «بهاء» ضحكة مغلفة بالحزن والمرارة وهو يقول: ما هو «السعدني» حكي لك عن أحواله لكن بطريقته فأنت تعلم أن «السعدني» رجل ساخر بفطرته والسخرية هذه تطوله هو شخصياً في بعض الأحيان.. ولم تمض إلا عدة أيام ربما تكون عشرة وجاءنا الخبر الذي انتظره «السعدني» طويلاً بعلاج «هالة» علي نفقة دولة الإمارات العربية المتحدة.. ولم تكن مشكلة «هالة» هي التي وجدت طريقها فقط للحل لكن كل مشاكلنا حلت.. فقد تغير مزاج «السعدني» إلي الأفضل ودخلت «هالة» المستشفي ونجحت عمليتها بفضل الله أولاً وأخيراً ثم بفضل تدخل الأستاذ «بهاء».. وينبغي أن نذكر هنا بالخير دور الشيخ زايد بن سلطان، رئيس دولة الإمارات العربية، الذي كان أحد أصحاب الفضل في شفاء شقيقتنا الكبري «هالة».. وقد جاءت دعوة لـ«السعدني» لكي يزور دولة الإمارات العربية وتركنا في لندن لمدة 3 أشهر وكانت الدراسة قد بدأت.. وعرف الخوف طريقه إلي قلوبنا، فالسنة الدراسية سوف تضيع علينا دون أن نعلم إلي أين المصير.. لكن اتصالاً هاتفياً جاءنا من «السعدني» وقال إن تذاكر السفر إلي الإمارات موجودة لدي شركة طيران الكويت.. فلم يكن للإمارات حتي هذه اللحظة شركة طيران وطنية وطلب منا إحضار شهاداتنا.. وبالفعل سافرنا إلي الامارات واكتشفنا أن الأرض التي هبطنا عليها هي جهنم الحمراء في أشهر الصيف، وفي نفس الوقت يقيم عليها أظرف وأطيب وأجمل خلق الله صفات وشمائل، فشعب الامارات مضياف محب للأشقاء العرب مرحب بجميع الزوار من مختلف بقاع الأرض.. وبدأت العملية الدراسية واكتشفت أن المواطنين من أهل الامارات داخل المدرسة هم الأقلية، وكان الأشقاء من الفلسطينيين هم الأغلبية وبعدهم المصريون ثم السوريون.. وكان قد مر من العمر في تلك الأيام 15 سنة أو أقل بقليل.. وفي الصف الأول الثانوي في مدرسة أبوظبي الثانوية للبنين عرفت لماذا ضاعت فلسطين وأدركت انها لن تعود إلي الأبد.. فقد كانت في مدرستنا تقريباً ستة فصول كل فصل يتكون من 20 طالباً، وكانت السياسة قاتلها الله هي الموضوع المطروح علي الدوام.. وكان «السادات» هو القاسم الأعظم لتلك المحاورات والمناقشات.. ولم يكن «السادات» وحده.. لكن «السادات» والسيدة جيهان السادات.. وسمعت حكايات لم ينزل الله بها من سلطان، وتلقيت كماً من السباب ربما لم يوجه إلي مخلوق واحد علي امتداد تاريخ السباب والشتائم.. وحول بعض الأشقاء حياتنا إلي جحيم وكنا فرجة لبقية الطلبة والمدرسين.. وعلي قدر فرحتنا بأهل الامارات علي قدر الحزن الذي دخل قلبي وسكن فيه بفضل هذه الشراذم المتناقضة المتباينة من الطلبة من إخواننا الفلسطينيين!! الذين كانوا يبادلون المصريين كراهية بلا حدود بفضل شخص الرئيس «السادات» الذي باع «الكضية» بـ«الكاف» علي رأي البعض منهم.