رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مذكرات ابن الواد الشقى

 

 

 

حاول السعدنى بكل ما أوتى من قوة أن يبعدنى عن حارة الشيخ رويس، وكان الرجل أمام طريقين لا ثالث لهما، خصوصاً أن الإجازة أصبحت على الأبواب بعد أن انتهى العام الدراسى الأول، فإما الجلوس فى البيت وأنزل «عزق» فى أخواتى، هالة وأمل وهبة وحنان أو النزول إلى الحارة، وهناك لم يكن السعدنى يأمن على شخصى الضعيف فقد ورثت عنه نفس البنية الضعيفة، وإن كان المولى عز وجل قد عوضنى سلاحاً عاتيا هو السخرية من خلق الله، فكان أصحاب المجانص والعضلات القوية يتقون شر لسانى، وعليه فقد حاول السعدنى أن يجرجرنى إلى القراءة، وسألنى بدهاء شديد.. هو أنا رميت فلوسى فى الأرض، فقلت له.. أنا ما شوفتش أى فلوس على الأرض.. فقال بجدية.. لا أنا باسأل عن الفلوس اللى دفعتها لك إنت وهالة فى المدرسة.. انتوا اتعلمتوا أى حاجة بالفلوس دى.. فقلت على الفور.. أمال ده إحنا بنقرا الجرايد كمان.. قال.. لا يا شيخ، قلت.. آه والله.. فقام السعدنى واتجه إلى المكتبة وسحب كتاباً وناولنى إياه وقال: طيب ورينى كده.. وجدت أنه أحد كتب السعدنى.. اسمه «السماء السوداء».. كان الغلاف كئيبًا لا يشجع على فتح الكتاب من أساسه ولكنى أمام اختبار السعدنى فتحت الصفحة الأولى وقرأت.. فانجعص السعدنى، وقال: يلا سلام.. ده انت ولا قارئ النشرة بتاعة الأخبار، بالطبع انكشحت لرأى السعدنى الذى لا يجامل أحداً وانهمكت فى القراءة واكتشفت بعد قليل أنه نسانى ونسى حكاية القراءة التى تشبه نشرة الأخبار وأنه أراد فقط أن يشغلنى عن الحارة، وعن ضرب أخواتى، ولكنى اكتشفت أيضًا أن السعدنى جاد فى حكاية عدم الخروج من المنزل على الأقل فى الوقت الذى يكون هو شخصيًا متواجدًا، وبالطبع كان الآمر الناهى المطاع وعليه.. فقد تركت كتاب «السماء السوداء» ودعبست فى المكتبة لأجد كتاباً آخر عليه صورة السعدنى وهو يكاد يكون بلبوصًا عدماناً، فقراناً. صورة له أو رسم بالأصح، وهو طفل صغير شديد الجاذبية، أخذت الكتاب واتخذت ركناً فى غرفة مكتب السعدنى وجلست أتصفح الكتاب وكان اسمه «الولد الشقى» الجزء الأول وكان كله فى «الحارة» نفس المكان الذى منعنى السعدنى من الاستمتاع به.

وفى حارة السعدنى وجدت عالم الخيال والمتعة والصياعة والشقاوة والإثارة والبهجة، إنه كتاب «الولد الشقى» الجزء الأول الذى كتب فيه السعدنى عن تجربته فى الحارة، وتمنيت من أعماق القلب، لو أننى عشت هذه الأحداث وقابلت تلك الشخصيات عبده بكر المكوجى، وأم صفيح، وأحمد طوغان وعبدالمنعم عثمان.. ثم، هذا السحر الذى أضفاه السعدنى على المكان، بحيث تحول إلى أجمل بقعة فى الكون، ويا سبحان الله نفس العقدة من مدرس الحساب ونفس الدهشة من علوم الجغرافيا والتى لا تضر ولا تفيد.. لقد تمنيت من أعماق القلب لو أننى كنت ولدت صديقاً للسعدنى واتبعت خطاه وسرت معه على دربه من أول حارة سمكة، ولأن ليس ذلك فى الإمكان، فقد صاحبت السعدنى فى كتبه، وعشت مع شخوصها، وكانت أجمل رحلاتى فى عالم المتعة والخيال، ولم أكن أترك هذا الكتاب حتى أثناء الطعام، وذات يوم كنا نجلس على طبلية السعدنى نتناول طعام الغداء هالة وأنا، وأما الطعام فكان من الملوخية إلى البامية إلى الفراخ، ورن جرس الباب بشكل هستيرى، فاتجهنا نستطلع من الباب، وعندما فتحت الباب، كان هناك صلاح السعدنى وعادل إمام وكانا فى بدايات الطريق الفنى، ومعهما ثالث يرتدى بدلة بيضاء بل ناصعة البياض، ويبدو أنه كان فرحان قوى بالبدلة، لم يصدق نفسه أنه داخل البدلة وربما لا يدرى كيف دخلها أيضًا، فكان حريصًا شديد الخوف عليها، وبحركات مبالغة سلم علىَّ وعلى هالة، ثم أمسك بالكتاب الذى فى يدى وهو يقول الله.. انت بتعرف تقرا؟ ثم ضحك ضحكة بلهاء.. توقفت عندها.. وبادلنى فى تلك اللحظة عادل إمام نظرات كانت أبلغ من كل الكلمات، وكان يفتح عينيه على آخرهما ويرفع أحد حاجبيه إلى أعلى وكأنه يعطينى الإشارة الخضراء للهجوم الكاسح على صاحب الرداء الأبيض دون أن يلحظ تلك الأوامر أحد غيرنا، وإذا كان اللبيب بالإشارة يفهم، فقد فهمنا الأمر هالة.. وأنا، ثم عاد صاحبنا ليقول: كويس قوى.. يا سلام وكمان بتقرأ لأبوك.. حاجة جميلة خالص.. ثم أبعد الكتاب وألقاه بعيدًا عنه وهو ينفض يديه.. ده انت مش بتقرأ الكتاب.. ده أنت بتأكل عليه!. ثم أخرج منديلاً بحرص زائد من الجيب العلوى للجاكيت وقام بمسح يديه، وكأن جربًا قد أصابه، نظرت إلى هالة نظرة شيطانية فهمتها على الفور ويبدو أن العم صلاح أدرك ما سوف يأتى فقال بصوت هادئ.. ده عمكم «مش عارف مين» أخو عمك جلال كشك.. وكان عادل إمام ينظر إلى كشك مندهشاً مما فعل.. وبمجرد أن قدمه لنا العم صلاح انطلقنا نحوه وطبعاً كفوف أيدينا على كل مكان فى بدلة الأستاذ المتأفف.. وآه لو تدركون مرارة الحسرة التى انتابته والمأساة التى حلت به.. فقد كانت أيدينا ملطخة بالملوخية ومغموسة فى دمعة البامية وملحوسة بالسمن البلدى.. ومات عادل إمام من شدة الضحك وصاحبه ينظر إلى الخسائر الفادحة التى حلت بالبدلة، وأراد عادل أن يغسل يديه من المؤامرة التى حلت بالبدلة، فقام بسبنا.. يا أولاد الـ... الراجل شارى البدلة مخصوص علشان يقابل بيها عم محمود من كتر الرعب الذى أصاب الأستاذ كشك تصورت أنه قام بتأجير البدلة وأنها ليست من ممتلكاته.. المهم خرجت من صاحب البدلة أصوات لم نتبينها ولكنها كانت كفيلة لكى يصحو السعدنى من نومه.. وبالطبع هربنا كما الجرذان هالة وأنا، وأمضى السعدنى مع عادل وصلاح والراجل أبوبدلة بيضا أو التى كانت بيضاء لبعض الوقت ثم انصرفوا بعدها.. لم نعلم بما دار بين السعدنى وأبوالبدلة إياها ولكنه صرخ صرخة تدعونا إلى الوقوف فى حضرته.. إنه العقاب آت لا ريب فيه.. فقد كان السعدنى حازماً إلى أقصى حد فيما يخص التربية أو الخروج على الأدب، ولكن الله سلم.. فقد جمعنا ليأخذ رأينا على طريقته والديمقراطية التى تشبه سبحان الله نفس طريقة السادات -عليه رحمة الله- إنها الديمقراطية ذات الأنياب.. وسأل عاوزين تصيفوا فين يا عيال.. فى إسكندرية ولا فى رأس البر؟.. وعلى الفور انطلق الجميع يهتفون ويصوتون لصالح الإسكندرية.. فتوجه ببصره نحو الست الوالدة، ليقول حضّرى الشنط هنروح رأس البر.. إنها نفس الديمقراطية التى اعتدنا عليها فى المدرسة والجامعة والحياة فى شرقنا السعيد!!.. وفى رأس البر انبهرنا لوجود توفيق الدقن إلى جوارنا، صحيح أن السعدنى كان شهيرًا فى ذلك الوقت وكمان صلاح قد سبق جيله كله عندما لعب دوره فى ثلاثية الضحية والساقية والرحيل للراحل عبدالمنعم الصاوى، شخصية أبوالمكارم الخالدة، ولكن توفيق الدقن صاحب الهالة السينمائية جعلنا نحس بشعور عجيب.. كنا ننظر إليه كإحدى عجائب الدنيا وكان يمر على السعدنى كل أسبوع وبصوته المحبب إلى الأذن.. كان يناديه يا سعدو يا رافع رأسى فى الجو.. وكان السعدنى فى كل مرة يمنح عم توفيق حبة صغيرة ويعقب ذلك دعاء من القلب للسعدنى من قبل الدقن.. وقبل أن ينتهى الصيف اجتمع نعمان عاشور والسعدنى ورشدى صالح وعم زكريا الحجاوى وجاء توفيق الدقن مدهوشاً من هذا التجمع الجميل وجلس وطلب له السعدنى شاى، ثم بدأ يحكى حكايته مع الدقن.. وقال: أول ما وصلت رأس البر عمكم توفيق عدى علىّ وسألنى معاكش حاجة يا عم محمود الله يسترها معاك.. فقلت حاجة زى إيه!! فقال حاجة من اللى ترفع الرأس يا أبوالمفهومية.. ويضيف السعدنى: دخلت وأحضرت حباية وأخذها الدقن وعاد ثانى يوم يلعلع.. يا سعدو.. يا اللى رافع رأسى فى الجو.. وأهو من يومها كل أسبوع عندى حبة.. يهز الدقن رأسه.. انت هتفضحنا ولا إيه يا حنف؟! فيضحك الحجاوى، وهو يقول: الحكاية دى زى ما هى تخصك.. تخصنا إحنا كمان.

يعنى مفيش فضيحة ولا حاجة.. ويسأله الحجاوى والحباية دى اشتغلت معاك ازاى يا عم توفيق.. وهو يهز رأسه.. أنا من يومها عمال أدعى لعم محمود.. أى والله.. ربنا يكرمك يا سعدو.. ويسأل الجميع السعدنى عن سر هذه الحبة التى فعلت السحر مع توفيق الدقن.. ويحكى السعدنى حكاية الحباية، فيقول: أنا لما عمكم توفيق عدى وفهمت غرضه دخلت البيت أدور على دواء مالقيتش غير حبوب منع الحمل، لفيت له حباية فى وردة وإديتها لعمكم تيفة ومن يومها وهو عمال يدعى لى.. فنظر الدقن إلى السعدنى وقد بدت الدهشة وعلامات العجب على وجهه ومعها الغيظ أيضًا وهو يقول: انت بتتكلم بجد.. ولا بتهزر يا حنف.. وهو يكاد يقع من شدة الضحك.. يرد السعدنى.. على الطلاق بتكلم بجد.. فنظر توفيق الدقن إلى الأرض وهو يقول وفى نبرات صوته حزن مدفون: يعنى أنا كل مرة كنت باخد حباية منع الحمل.. ثم يرفع رأسه معاتباً السعدنى: كده برضه يا عم محمود. ولم يستطع السعدنى والذين معه وأنا من أن نكتم نوبات الضحك التى لم يقطعها سوى دعاء توفيق الدقن وهو يهم بالقيام.. يا شيخ منك لله.. وأقسم الدقن أنه لن يعرف السعدنى بعد اليوم.. ومرت عدة أيام وإذا به يعبر من أمام عشة السعدنى ونحن نلعب الكورة، تصورت أن عم توفيق سيتجاهل وجود السعدنى، وربما ألقى السلام ومضى فى طريقه، فقد كان الموقف الذى وقع فيه لا يسر عدواً من حبيب، ولكن العكس تماماً هو الذى حدث، فقد كان السعدنى جالساً يقرأ الجرائد ويحتسى الشاى، فدعاه لكى يشرب معه واحد شاى وحدث عتاب ولوم.. وكده تفضحنى وسط الناس.. وهو يكتم الضحك، قال السعدنى: ما هم كل اللى كانوا قاعدين زينا بالضبط با عم توفيق.. مفيش فضيحة ولا حاجة.. وبعدين حقك علىّ يا عم توفيق وصافى يا لبن.. ويسأل الدقن: أنت مطول معانا ولا مسافر؟ ويرد السعدنى: ح أسافر بعد يومين.. ويهمس الدقن.. طالما الأمر كده.. وحياة أبوك ادينى حبايتين.. وهو يضحك.. أجابه السعدنى تانى يا عثمان!!