رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

السياسة موهبة وفن وعلم واحتراف تصقلها الخبرات والمهارات فى القدرة على إقناع الجماهير من خلال الحوار والاستجابة لمطالبهم.. السياسة تستطيع أن تخلق رصيداً لا يستهان به من المؤيدين، وتستطيع أن تبنى للفرد فى وقت قصير ما لا يقدر على بنائه منفرداً وإن استغرق مدداً طويلة.. وكما تستطيع السياسة أن تمهد الطريق إلى النجاح، فإن القرارات الخاطئة قد تؤدى إلى عواقب وخيمة تزيد من المعارضين، بل قد تصرف المؤيدين نتيجة للإخفاق فى وضع الرؤية الصحيحة أو القرار الصائب.. هذا ما لم يستوعبه الرئيس الأمريكى الجديد بعد..

«ترامب» جاء ومعه أسرته الحاكمة وأصدقاؤه مختلفاً عن أى رئيس سابق لأمريكا.. وكأنه يشعر بأنه ملك -على نحو ما كان عليه وضعه فى مؤسسة أعماله الخاصة- وليس رئيساً للولايات المتحدة.. فأسلوبه قائم على سياسة العقاب لمن يعاديه والثواب لمن يلتف حوله.. وقد يكون ذلك مقبولاً عندما تكون رجلاً للأعمال، أما كرئيس للبلاد فليس هناك سوى خط واحد وهو تقبل الجميع اختلفوا معك أم اتفقوا.. لقد جاء «ترامب» بأصدقائه من الأغنياء وكل من كان له بعض من الفضل فى فوزه بالرئاسة الانتخابية ليعادى شعبه.. وفى خطابه الأول بعد مراسم تنصيبه كرئيس للجمهورية استطاع أن يشق الشعب الأمريكى بجراحة نادرة ليقسمه نصفين بين مؤيدى «ترامب» وبقية الشعب الأمريكي.. هذا دون إدراكه لخطورة ذلك.. وخطورة وجود هذا الشعور بالانقسام بين أفراد الشعب وتناميه.. الشيء الذى بدأ مع الترشيح والحملة الانتخابية له حيث لوحظت سياسته العدائية ضد كل من ينتقده أو كان ضد آرائه، وعلى غير المتوقع لم يسلم من ذلك خطاب التنصيب..

خرج الرئيس الأمريكى «ترامب» بخطابه الأول غير مفرق بين ما يجب أن تكون عليه نبرة المتنافس فى الحملة الانتخابية والنبرة لرئيس الجمهورية.. خرج بخطابه الذى أنصت له كل الشعب الأمريكى مؤيد وغير مؤيد، والكل فى انتظار صفحة جديدة ورسالة رئيس تحمل أضعف الإيمان وهو الدعوة إلى وحدة الصف.. إلا أنه و«بكلمات» واضحة لمؤيديه.. وفى نفس الوقت «بلكمات» مؤلمة لبقية الشعب الأمريكى يؤكد «ترامب» أن ما رأوه فى القائد أو الصورة التى كان عليها أثناء حملته الانتخابية سيكون هو نفس القائد فى البيت الأبيض.. أى إشارة إلى أنه لن يكون هناك تغيير فى مواقفه السابقة، ربما كان ذلك إمعاناً فى التقرب إلى قلوب مؤيديه ومنتخبيه، وهم بالطبع مصدر قوته التى يعتمد عليها ومنبع ثقته بنفسه.. ولكن على الجانب الآخر فإن إشارته لعدم التغيير وغياب الدعوة إلى وحدة الصف أو تبنى المواءمات ترك الملايين الآخرين من الشعب الأمريكى فى حالة إحباط، وذهول، وفزع من المستقبل.. حتى إن بعض المحللين السياسيين وسط دهشتهم من النبرة والمحتوى غير المسبوق للخطاب الأول للرئيس الأمريكى إلى شعبه -يرون أنه بمثابة «دعوة إلى المعركة» للمؤيدين له من الشعب الأمريكى ضد معارضيه.. كان يكفيه أن يقول إنه جاء رئيساً لكل الأمريكيين ويحمل وعود المساواة والتآخى لكل أفراد الشعب..

محتوى الخطاب جاء كأول القصيدة كفر.. قال إنه جاء ليعيد للشعب الأمريكى بلاده.. وينصِّب نفسه زعيماً لحركة التحرير! مقولة غريبة على أمريكا التى حظيت بهذه الديمقراطية الراسخة منذ القرن الثامن عشر حتى الآن.. أية حرية لأمريكا يقصدها الرئيس الأمريكى هنا؟ حريتها عندما قام بوقف التأمين الصحى للملايين فى يومه الأول لتقلده الحكم دون بديل واضح؟ حريتها فى خفضه الضرائب للأغنياء؟ حريتها فى حرمانه الأقليات وتقليصه حرياتهم؟ هذا عصف بحرية وديمقراطية أمريكا المعهودة.. ثم حمل خطابه بأنه جاء ليصحح الأوضاع السياسية التى يرى أنها جعلت واشنطن تزدهر وسياسييها يزدادون غنى، بينما الأمريكى العادى يفتقر، ونسى أنه نفسه قد جمع ثروة هائلة تقدر بالملايين من أعماله داخل وخارج أمريكا والتى يصعب حصرها، دون تقديم إقراره الضريبى الأمريكى المعتاد إلى الآن على الرغم من أن الإقرار الضريبى يعد العريضة الأولى المطلوبة للبيت الأبيض حال تسلم الرئيس الحكم وكما تشير وسائل الإعلام.. ويصر «ترامب» على أنه جاء زعيماً لهذه الحركة ولثورة التصحيح نظراً لتردى الأحوال والمصانع والأعمال متناسياً أن البطالة حالياً تصل لأقل معدل تاريخى لها، وأن البورصة تضاعفت ثلاث مرات على ما كانت عليه فى نهاية حكم الجمهوريين برئاسة جورج بوش الابن، وأن معدلات الأداء الاقتصادى أصبحت مزدهرة، كما أصبحت هناك عدالة اجتماعية طبقت التأمين الصحى وقامت برعاية ملايين الفقراء هناك وغيرها من إصلاحات، وكل هذا فى مجموعه يعد الآن خط الصفر الذى تسلم عليه «ترامب» حال البلاد.. هذا وإن كان المزيد من الإصلاح دائماً هدفاً لكل رئيس أمريكى، إلا أن ذلك لا يعنى بالضرورة أن يظهر الجميع سيئين و«أنا» الوحيد الذى لم ولن يأتى مثله، كما وهو المرسل لتحرير أمريكا!

رسالة «ترامب» جاءت بهدف كسب التعاطف واستمرار درجة حرارة التأييد له من الناخبين، فأوضح بأنه سيحارب لآخر نفس من أجلهم وكأنه ما زال يعيش فى المعركة الانتخابية، ويمضى ليؤكد أن فى كل سياساته «ستأتى أمريكا فى المقدمة» ويقصد هنا التركيز على الشأن الداخلى لأمريكا ومصلحتها دون الالتفات إلى أى اعتبارات أخرى ملزمة لها تجاه العالم، ويرى الكثيرون أن تلك الدعوة إلى «الانعزالية» للولايات المتحدة تفتقر إلى الحكمة، ويأتى على رأس ذلك التنويه لوقف الاتفاقات التجارية للعولمة.. ونسى «ترامب» أن الحظ الوافر، والوفرة الاقتصادية التى جلبتها العولمة لأمريكا كانت لا حدود لها.. وأن «أمريكا فى المقدمة» كانت حينما قادت العالم الحر وضربت المثل المحتذى فى الديمقراطية.. «أمريكا فى المقدمة» عندما فتحت أبوابها وأعطت الفرصة لكل من يريد تحقيق حلمه فى العيش الكريم وأن يجيد ويجتهد.. «أمريكا فى المقدمة» عندما اعتنقت مبادئ تحفظ للإنسان حقوقه فى الحريات والتعبير والدين والمساواة ولحكم القانون.. أما «أمريكا فى المقدمة» التى يعنيها الرئيس «ترامب» تنم عن أنانية لا يتقبلها أصدقاء أمريكا قبل أعدائها.. ثم يقوم بتوجيه خطابه للدول الخارجية على اختلافهم مؤكداً إصراره على استعادة الوظائف.. واستعادة الثروات.. واستعادة الحدود التى يتم تهديدها، ومن المعروف أن الولايات المتحدة تختلف عن غيرها من الدول فى صعوبة تطبيق سياسة الانغلاق على نفسها أو النظر لشأنها الداخلى فقط دون النظر لصورتها «البانورامية» التى تتكامل وهى فى مركز العالم الذى يدور حولها، فلأمريكا واقع ريادى فى العالم - شئنا أم لم نشأ - مما يملى عليها الكثير من الأدوار والالتزامات والمشاركات والتحالفات.. وهكذا جاء الخطاب لينم ليس فقط عن نقص الفهم السياسى وعدم اكتمال الخبرة السياسية، ولكن أيضاً ليحمل شعارات حادة مثيرة للحماس والمشاعر تقدم على الساحة الأمريكية ربما ضماناً لفترة رئاسية لمدة ٨ سنوات وليس ٤ سنوات فقط دون دراية واضحة عن مدى قابلية ما يتم طرحه للتطبيق ودون حسابات دقيقة لتأثيراته على التوازنات العالمية، وموقع الولايات المتحدة الأمريكية من ذلك كله.. وأخيراً دون أن يدرك بأن مثل هذه الشعارات غير مقنعة لشعبه بدليل المظاهرات التى اندلعت داخل القارة الأمريكية وامتدت إلى بقاع العالم المختلفة..

وتحدث «ترامب» فى خطابه عن أمريكا الموحدة واستشهد بما جاء فى الكتاب المقدس «ما أجمل أن يعيش شعب الله معاً فى اتحاد». كلام جميل لو كانت سياستك فعلاً تهدف لتوحيد أمريكا.. ولكن أى اتحاد هذا وأنت تهدد الأقليات وتغرس الضغائن فى قلوب الناس؟ وكان هناك تقليد متكرر بأن يضم احتفال التنصيب الرسمى ممثلين للكنائس، واليهود، والمسلمين.. ولكنه رفض أن يكون هناك إمام مسلم فى احتفالية تنصيبه.. وتحدث عن «الإرهاب الإسلامى». كما يحلو له أن يسميه وهى سقطة تاريخية وأيديولوجية.. فقليل من السياسة كافية لتوضيح أن الإسلاميين المعتدلين هم سلاحه الأول ضد الإرهاب.. وكيف له أن يتخيل التعاون المطلق للإسلام المعتدل فى العالم وهو على هذا النحو من التعصب.. لم يقدم «السبت» ليجد «الأحد» أمامه، ويبدو أنه دخل من باب السقوط ليزيد انشقاق شعبه.. ويبدو أن «ترامب» يريد مؤيديه أن يواجهوا معارضيه وهو أسوأ ما يمكن حدوثه.. فالمشاهد من سياسة «ترامب» أنها تقوم على التفرقة.. يتضح ذلك من أسلوبه ونبرة خطابه فى تأليب الشعب على الشعب، كفصيلين: مؤيدين ومعارضين.. بل ومحاولة تأليب الشعب الأمريكى على فصائل أخرى مثل المسلمين والمهاجرين.. ليتراجع هو من المشهد ويترك الساحة للمتصارعين من فرق الشعب.. وهو فى نهاية الأمر «لست المسئول» بل وهو المستفيد دائماً من الفُرقة وحماسها!

خرجت أمريكا أمس وبمؤازرة كل العالم بمئات المظاهرات تبلغ نحو ٦٠٠ مظاهرة تضم مئات الألوف اعتراضاً على سياسات «ترامب» تجاه المرأة أساساً، ولكن انضم إليها كل المؤيدين -رجالاً ونساء- لحقوق الإنسان على عمومها وبمكوناتها، بالإضافة إلى معترضى الاتجاهات السياسية لـ«ترامب» غير المقبولة وغير المبشّرة وكما ورد فى خطاب التنصيب له الجمعة الماضية.. المرأة خرجت بقوة ورهبة لأن «ترامب» لم ينظر إلى المرأة باحترام ولم يحاول أن يكسبها إلى صفه ويزمع إنكار بعض الحقوق الصحية لها.. خرجت جميع الولايات: واشنطن، نيويورك، شيكاغو، بوسطن، أتلانتا، كاليفورنيا وغيرها.. ثلاثمائة مدينة أمريكية خرجت بفيضانات من المظاهرات الحاشدة، تضم من الألوف إلى مئات الألوف، لم توقفها المسافات أو الأحوال الجوية أو ظروف أخرى، خرجت تعبيراً عن موقف المرأة والجماهير فى اليوم الأول لحكم «ترامب» ولتكون الرسالة: «نحن هنا».. خرج أيضاً النواب والسيناتور بالكونجرس والنشطاء السياسيين فألهبوا الجماهير حين قالوا: نحن نحب أمريكا ولن ندع مثل هذا العبث يقسّم الشعب.. نحن مع المؤيدين والمعارضين.. مع المسلمين واليهود والمسيحيين.. نحن مع الأبيض والأسود.. مع المرأة والرجل.. نحن مع أمريكا دولة السلام لكل المهاجرين والأطياف وأيضاً لكل الأديان.. وقالت الناشطة جلوريا ستينام وهى امرأة أمريكية بيضاء إنه لو حدث وطُلب من المسلمين فى أمريكا أن يسجلوا أنفسهم (كما يدعو لذلك «ترامب» بالرغم من عدم دستوريته) فسنسجل جميعاً معهم «مسلمون».. تخيل تكاتف الأديان من أجل المساواة..

لقد أرسل الشارع الأمريكى والاتجاهات السياسية والمرأة والرجل والعالم بأكمله رسالات واضحة للرئيس الجديد.. تفيد فى مجموعها بأن الشعب أمامكم والبحر خلفكم.. الشعب أمامك وليس خلفك.. الشعب أمامك معترضاً على الجرعة البسيطة التى قدمتها يوم تنصيبك، ولك أن تتخيل ما هو متوقع خلال الأشهر القادمة، خاصة وأن نسبة مدى الرضاء على قراراتك أثناء الفترة الانتقالية لتسلم الرئاسة تجىء عند أدنى مستوياتها (٣٧٪) مقارنة بالمعدلات لدى الرؤساء السابقين قبيل تسلمهم للحكم.. ليس أمامك سوى طريق واحد لتكون رئيساً حقيقياً.. أولها أن يقتنع بك الجميع، وثانيها المساواة الحقيقية: أبيض كان أم أسود، لاتينى أم آسيوى أم أفريقي، امرأة أم رجل.. مسلم أم مسيحى أو يهودى.. هذه أمريكا التى ورثت إرثاً عظيماً من المبادئ لم يستطع رئيس أن يغيره، ولم يستطع الكونجرس أن يتخلى عنه.. الجميع سيقف ضدك لو شعر بأن وحدة الشعب الأمريكى مهددة.. وهو ما أكدته أيضاً سوزان وارن عضو الكونجرس الأمريكي.. لقد ظن «ترامب» أنه كرجل أعمال ناجح ومشهور فإنه سيكون رئيساً ناجحاً لامتلاكه مهارات تغيير دفة الأمور فى لحظتها أى تغيير الموقف لتمام عكسه، أو إطلاق مقولات ليس لها أسانيد حقيقية على الواقع.. ولكن المشكلة أكبر حين تجد العالم يقف ضدك.. هناك أمر خطير صنعه المناخ العدائى الذى أحاط به نفسه فى الحملة الانتخابية امتد لخطاب التنصيب، فكان رد الفعل الأمريكى الذى انتقل إلى بقية أنحاء العالم الذى تحرك فى سرعة شديدة فى مسيرات ضد ترامب.. ثم أراد الرئيس ترامب أن يخفف وقع أخطائه حيث كان وانتقد وقلل من قدر القائمين على المخابرات الأمريكية مسبقاً ولكنه هرع إليها فى صباح اليوم التالى لتنصيبه ليقول لهم أنا أحبكم وأقف خلفكم.. الرئيس يجب أن يكون متحفظاً وسياسياً فى نقده أو عدائه.. حتى فى داخل مقر المخابرات دخل فى مناقشة طويلة يتحدث فيها عن نفسه وعن خصومته للإعلام الذى يصفه دائماً بالكاذب، وكيف أن الجماهير الذى حضرت حفل التنصيب الخاصة به كانوا أكثر عدداً من الذين خرجوا لأى رئيس جمهورية قبله! الأمر الذى كان بالطبع محل الانتقاد الشديد من الكثيرين..

وفى نقاش علمى يستخلص المحاورون السياسيون أن الرئيس لا يحيطه المحنكون فى السياسة لأن الرئيس اختار فى الدائرة المقربة أهل الثقة وليس أهل الخبرة.. وأيضاً علق مستشار الرئيس السابق بأنه من الأولى لـ«ترامب» أن يحيط نفسه بمن يستطيعون أن يقولوا له قل ولا تقل.. وأن يكون متقبلاً للنصح والتشاور متخلياً عن روح العداء والتحدى.. وأيضاً يجب أن تكون هناك مراجعة سريعة إلى الطريق لكسب التأييد الشعبى من أمريكا الموحدة.. وعليه أن يتذكر بأن الولايات المتحدة صاحبة التاريخ الذى لم يكن سهلاً فى إرساء الحرية والمساواة.. ولا يبدو أن الشعب على استعداد للتفريط فى مكاسبه لأن البدائل مريرة وأليمة.. وأخيراً على «ترامب» أن يواجه الأمر بأن الحملة الانتخابية قد انتهت، وأنه الآن الرئيس والقائد الأعلى ويجب أن تكون أفعاله ترجمة لكل أحلام الشعب وليس لحزب بعينه أو طائفة بعينها.. الأيام هى التى ستثبت إذا كان فى استطاعته جمع الخيوط ليصير رئيساً لكل الشعب..

[email protected]