رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أوراق مسافرة

عندما جاءنى الشاب الوسيم المهندم بالجريدة طالبا لقائى بعد بمكالمة هاتفية، حاولت دعوته الى مكتبى ليسرد ما جاء لأجله، لكنه أصر أن يبقى بحديقة البناية ليحكى، وأدركت سر رفضه الصعود للمكتب.. حتى لا يرى أحد من زملائى دموعه المنهمرة بلا توقف.

قال: «أنا ظالم، يطاردنى الشعور بالذنب والعقوق أينما ذهبت.. فى نومى، فى الشارع، فى عملى، رغم أنها ماتت وهى تدعو لى، وبدعائها سبغ الله علىَّ ستره فى مئات الصعاب، وكلما نجوت من أى مأزق، أدركت أن دعاءها لا يزال حصنى الواقى، ومع النجاة يتضاعف شعورى بالذنب تجاهها، فأسير كالمجنون أبحث عن وجهها بين وجوه كل النساء الطيبات، الحاملات هم الحياة وأوزار الأبناء وقسوة عقوقهم، أنا ابنها الأكبر وتصغرنى بنتان، أكاد أقسم إنى منذ ولدت لم آرها أبدا سعيدة، رغم ابتسامتها الحانية التى لم تفارق وجهها أبدا، كانت موظفة بسيطة، وأبى مدرسا، كان بخيلا، وكانت كريمة، كل ما فى يدها لنا، وكانت تستدين من خالاتى لسد مطالبنا، كانت تعمل كالنحلة منذ الفجر وحتى آخر الليل، بيتنا الصغير البسيط نظيف ومرتب، رائحة الطعام الساخن لا تفارقه أبدا، أعود من المدرسة قاصدا المطبخ قبل أن ألقى عليها السلام لأرى ماذا أعدت لنا من طعام شهى، لم افكر يوما أنا وإخوتى كيف تجد الساعات لتفعل كل هذا لأجلنا.

تصحو من الفجر تعد الإفطار، تهرول إلى عملها فى زحام المواصلات، تقضى ساعات العمل فى عناء لخدمة المواطنين، تغادر عملها الى السوق لتشترى لنا ما نحتاجه، تهرول للبيت لتعد طعام الغداء فنعود من المدرسة ونجد كل شيء.. الطعام، غرفنا التى تركناها قذرة باتت مهندمة رائعة، وويل لها من أبى لو تأخرت يوما فى العمل، وكانت تواجه غضبه بالاعتذار بأن الذنب ذنب الزحام، وبعد الغداء تهرول للمطبخ تغسل المواعين والغسيل وتعيد ترتيب ما أفسدناه، ننام بعد الغداء وتبقى يقظة، وبين يديها ملابسنا تكويها، وترتق منها ما تمزق، تتلقفنا واحدا تلو الآخر لتذاكر لنا، وكان والدى  يحجم عن المذاكرة لنا بعلة نفاد طاقته فى عمله.

سقطت أمى ذات يوم.. لا أعرف من الإجهاد أم من الغضب، أصيبت بذبحة صدرية، وفى هذا اليوم فقط عندما تم احتجازها بالمستشفى، شعرت أنا وإخوتى بنوع من اللوعة والفقدان، لا لشيء سوى أننا عدنا من المدرسة ولم نجد البيت نظيفا ولا رائحة الطعام الساخن تنبعث من المطبخ، كان كل شئ باردا، كأطفال شعرنا باحتياجنا للأشياء أكثر من احتياجنا للأم التى تصنع هذه الأشياء، وعندما عادت للبيت، عاد كل شيء إلى وتيرته، لم يرحم أبى ولا أنا وإخوتى هذه الأم المريضة، كانت تتألم فى صمت، حين تفاجئها الأزمة، تغلق باب غرفتها عليها، تتناول الدواء حتى لا تعطلنا بمشهد الألم عن دروسنا، ضج أبى بمرضها، ووجد فرصة للفرار من مسئولية رعاية مرضها وهى التى أفنت شبابها تحت قدميه، وسافر للعمل ببلد خليجى، وفجأة توقفت رسائله والمبالغ التى يرسلها لها، وأرسل بدلا منها وثيقة الطلاق لأمى، وعلمنا بزواجه من زميلة له، ثم انقطعت أخباره وكذلك نفقته، وباتت هذه السيدة المريضة الأم والأب والعائل.

راتبها البسيط لم يكن يكفى، خاصة عندما دخلت الثانوية العامة وإخوتى فى مراحل تعليم تحتاج الى مزيد من النفقات، والتهمت الدروس الخصوصية معظم راتبها، بحثت عن أى عمل إضافى آخر بلا جدوى، تراكمت عليها الديون، فبدأت تبيع فى أثاث البيت، ورفضت فى المقابل فكرة الزواج بآخر، رفضت ان تأتى لنا برجل غريب ولديها ابنتان جميلتان، وأصرت أن تحمل كل حملنا بمفردها، رغم ذلك لم نكن معها أبدا رحماء، لم نتوقف عن تنغيص حياتها بالمطالب، ولم نخفف عنها يوما عبء أعمال البيت، فى أيام المدرسة تتركنا لنذاكر من أجل مستقلبنا الذى كانت تردد انه هو كل أملها فى الحياة، كان همها أن ترانا نكبر، أن نصبح أشجارا ثابتة فى وجه الأرض لا فروعا نتمايل فى وجه الريح، ان ترى ريشنا الأخضر يقوى ويطير لنصنع شيئا..مستقبلنا، وفى الإجازة كنا أنانيين ليس لدينا سوى النوم والخروج مع الأصحاب، لم نفكر يوما فى اسعادها، ولا فى آلامها، حتى عندما نصحها الطبيب بإجراء جراحة القلب المفتوح، بضعة آلاف تتطلبها الجراحة، لم تكن تملك منها شيئا، فلا أنسى يوم صرخت فى وجهها بكل تجبر وقساوة واتهمتها باستعذاب الالم ورفض اجراء الجراحة، لتنال منا الشفقة، ساعتها انحدرت دمعة على خدها، ولم تقل لى الحقيقة، لم تقل انها تفضل دفع الدروس الخصوصية لأحصل على مجموع يؤهلنى لكلية الهندسة، بدلا من إجراء جراحة القلب.

عندما ماتت أمى قبل ثلاثة أعوام وتركتنى فى نهائى الهندسة وشقيقتى بجامعات مرموقة أيضا، واجهتنى خالتى بما أخفته أمى عنا، ودفعت لأجله حياتها، رفضت امى إجراء الجراحة وتعجلت الموت، حتى نقبض قيمة وثيقة التأمين على حياتها لصالحى أنا وشقيقتي، مبلغ يكفينا لننهى تعليمنا دون خوف، وننطلق للحياة، دموعى لا تتوقف أنا وشقيقاتى عليها حتى الآن حقا الأعمار بيد الله وهى لم تنتحر، لكنها فضلت الألم والموت عن حرماننا من التعليم، نتذكر فى كل لحظة ألمها وعذابها، جحودنا ونكراننا، ورفضنا حتى لألمها الذى استعذبته لأجلنا.

اكتبى يا أستاذة بقلمك، اكتبى عن ندمنا.. أسفنا.. لوعتنا، عن قلوبنا الحجر، اكتبى..أنا آسف.. آسف يا أمى أنا وإخوتى، آسف بعد فوات الأوان، وكل عزائنا أنك كنت راضية عنا رغم كل شيء ودعوتا لنا حتى آخر لحظة، أكتبى أنى أفتش فى دنياى وقلبى وبكل الحنايا، ولا أجد ما يوافيها الاعتذار، ولا أعرف هل ستصلها كلمات الأسف، أنا أتصدق لأجل روحها كل يوم، أدعو لها فى كل صلاة، لكن شعورى بالندم لما عاشته من ألم ودفعها لحياتها حتى نكون.. شعور لن يفارقنى أبدا ما حييت فما أعظم أمى وكل أم.. أيها الأبناء.. أفيقوا قبل أن ترحل عنكم أعظم من أحبكم وأول وآخر من أحبكم دون أى مقابل.

[email protected]