آخر ضحاياها.. عجوز بورسعيد وطالب المنوفية
كلاب ضالة .. تحاصر الشوارع وتهدد المواطنين
وزير الزراعة: 11 مليون كلب ضال فى ربوع مصر
صراع مفتوح بين حق المواطن فى السير بأمان وحق الحيوان فى الحياة
حوادث عقر متكررة فى الريف والحضر ومخاوف من زيادة انتشار الظاهرة
خبراء: التعقيم والتطعيم هما الحل.. والقتل يهدد التوازن البيئى
لم تعد الكلاب الضالة مجرد مشهد يتكرر فى الشوارع، بل تحولت إلى قضية تمس تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين، بعدما تداخلت فيها الأبعاد الصحية والإنسانية والأمنية معاً، وعلى وقع حوادث العقر المتزايدة ومشاهد القلق التى ترافق خروج الأطفال وكبار السن إلى الشارع، تصاعد الجدل حول كيفية حماية الناس دون الإخلال بحقوق الحيوان وهل تنجح الحلول العلمية فى مواجهة واقع يمتلئ بالفوضى؟.
هذا الجدل لم يأتِ من فراغ، بل أعادت إشعاله حوادث مؤلمة كان آخرها وفاة مسن بمدينة بور سعيد متأثراً بجراحه بعد أن عقره ستة كلاب ضالة فى الشارع حينما كان عائداً لمنزله يحمل كيس لحم، وقبلها بأيام قليلة توفى طالب بالفرقة الثالثة بكلية التجارة بجامعة مدينة السادات بمحافظة المنوفية، بعد صراع استمر قرابة ثلاثة أشهر بسبب مضاعفات عضة كلب، دخل الشاب فى غيبوبة طويلة قبل أن يفارق الحياة، ليسود قرية طليا التابعة لمركز أشمون مسقط رأس الشاب حالة من الحزن العام، وكان الشاب قد تعرض للعقر أثناء وجوده فى الحقول القريبة من منزله، ورغم تلقيه الإسعافات الأولية ومصل العقر بمستشفى أشمون العام، إلا أن حالته الصحية تدهورت سريعاً، لينقل إلى مستشفى الحميات ويمكث فى العناية المركزة حتى وفاته.
مثل هذه الحوادث لم تعد استثناءً؛ إذ تتزايد شكاوى المواطنين من انتشار الكلاب فى الشوارع والحقول والمناطق السكنية، ومع تكرار وقائع العقر بين الأطفال والكبار، وارتفاع إحساس الخطر أثناء السير ليلاً أو مبكراً فى الصباح وبين أسر تفجع فى أبنائها، وأخرى تعيش قلقاً يومياً، تتعمق الأسئلة عن قدرة الدولة على التعامل مع الأزمة وسرعة تحرك الجهات المعنية قبل سقوط ضحايا جدد.
فى مواجهة هذا الواقع، أكدت وزارة الزراعة أن الدولة لا تتبنى نهج القتل أو التسميم، وإنما تعتمد استراتيجية علمية قوامها «الإمساك– التحصين– التعقيم– الإطلاق»، بما يتوافق مع الاستراتيجية العالمية للسيطرة على السعار. ومؤخراً أعلن وزير الزراعة واستصلاح الأراضى علاء فاروق التنسيق مع المحافظين لتخصيص أراضٍ لإقامة مراكز إيواء مؤقتة (شلاتر)، مشيراً إلى تخصيص مساحة خمسة آلاف متر مربع كمرحلة أولى فى منطقة التبين بالقاهرة، مع خطط للتوسع فى محافظات أخرى بحسب الحاجة.
وأشار فاروق إلى أن إحصائية أجريت بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) عام 2023 قدرت أعداد الكلاب الضالة فى مصر بين 7 و8 ملايين كلب، مع احتمال زيادتها حالياً بنحو 25% لتتراوح التقديرات بين 10 و11 مليون كلب، وهو رقم يعكس حجم التحدى، وأوضح أن الدولة ستتحمل جزءاً كبيراً من تكلفة التعقيم والتحصين، مع فتح الباب أمام المجتمع المدنى والمنظمات الدولية لدعم برامج السيطرة على الظاهرة.
ونفى الوزير بشكل قاطع ما تردد عن تصدير الكلاب بغرض الأكل، مؤكداً أن «هذا الأمر غير مطروح على الإطلاق»، وأن أى حديث عن تصدير محتمل لا يكون إلا بغرض الاقتناء وتحت ضوابط صارمة، مع الرفض الكامل لأى تعامل غير إنسانى أو تسميم للحيوانات.
قلق لا يهدأ
فى جولات ميدانية بعدد من المناطق الشعبية والريفية، بدا الخوف حاضراً فى روايات المواطنين تقول أم محمد 67 عاماً: بقينا نخاف نطلع بدرى أو نرجع متأخر الكلاب بتمشى فى مجموعات، وصوت نباحها يرعبنا اشتكينا كثيراً ومفيش حل واضح.
ويضيف عم حسن 72 عاماً: الموضوع مبقاش ليل بس.. حتى الصبح حوالين القمامة الوضع خطر إحنا كبار ومش قادرين نجرى ولا نواجه.
ويتذكر طفل بالمرحلة الإعدادية أحد المواقف قائلاً: كلب جرى ورايا وأنا رايح المدرسة وعضنى أخذت المصل بس لحد دلوقتى بخاف أنزل الشارع لوحدى.
وتشير أم لطفل تعرض للعقر إلى تأثير نفسى ممتد قائلة: ابنى بقى يخاف من الشارع، وكل ما يشوف كلب يعيط ويتوتر مش مجرد عضة وخلاص.
وتحدث مواطنون عن الاشتباه فى حالات سعار وسلوك عدوانى غير معتاد لبعض الكلاب بينما اشتكى آخرون من بطء الاستجابة للشكاوى، وتبادل المسئولية بين الجهات، ما يترك المواطنين فى مواجهة مباشرة مع المشكلة.
هذه الشهادات تكشف فجوة بين الخطط المعلنة والواقع، وتعيد طرح السؤال: كيف يمكن حماية الناس على الفور، مع وضع حل طويل الأجل فى الوقت نفسه.
التوازن البيئى
من زاوية علمية يؤكد الدكتور إسلام السقا، أخصائى طب وجراحة الحيوانات الأليفة بجامعة القاهرة، إن أزمة الكلاب الضالة ليست مجرد ملف أمنى أو خدمى، بل قضية صحية ومجتمعية مرتبطة بالتوازن البيئى ومنع انتشار الأمراض. وأوضح أن الكلاب الضالة يمكن أن تتحول من عبء صحى إلى قيمة مجتمعية، ليس من خلال الربح المباشر، وإنما عبر تقليل حوادث العقر والحد من انتشار الأمراض، وهو ما لا يتحقق إلا بتطبيق برامج علمية منتظمة للتطعيم ضد السعار، والتعقيم والسيطرة على التكاثر تحت إشراف بيطرى كامل.
وأضاف أن فكرة تصدير الكلاب الضالة لا تمثل حلاً جذرياً للمشكلة، ولا يمكن التعامل معها بمعزل عن التأهيل الصحى والالتزام بالضوابط الدولية، مؤكداً أن أى تصدير يتطلب ضمان خلو الحيوانات من الأمراض، وعلى رأسها السعار، قبل السماح بسفرها، وإلا فإن الإجراء قد يخلق مخاطر صحية عابرة للحدود.
وأشار السقا إلى أن تفاقم الظاهرة يعود إلى عدة أسباب مجتمعة، من بينها غياب برامج التعقيم والتطعيم المنتظمة، والتخلى عن الكلاب الأليفة بعد تقدمها فى العمر أو إصابتها بالمرض، وضعف تطبيق القوانين المنظمة لحيازة الحيوانات، إلى جانب انتشار القمامة المكشوفة التى توفر مصدر غذاء دائماً لهذه الحيوانات وتساعد على تكاثرها وبقائها داخل الكتل السكنية.
ولفت إلى أن نقص الملاجئ والمراكز البيطرية الحكومية وغياب تكليف الأطباء البيطريين منذ عام 1994 أدى إلى تراجع الدور البيطرى فى السيطرة على الظاهرة، مؤكداً أن غياب الحلول المؤسسية فتح الباب لطرق خاطئة فى التعامل مع الكلاب مثل القتل العشوائى والتسميم، وهى ممارسات غير إنسانية وغير علمية، كما أنها لا تحل المشكلة بسبب ما يعرف بتأثير «الفراغ البيئى»، حيث تهاجر كلاب أخرى إلى نفس المناطق وتعيد إنتاج المشكلة من جديد.
وشدد أخصائى طب وجراحة الحيوانات الأليفة على أن الحل العلمى يكمن فى حزمة متكاملة تشمل: التعقيم للحد من التكاثر، التطعيم المنتظم ضد السعار، إنشاء ملاجئ ومراكز إيواء ورعاية منظمة، إلى جانب نشر الوعى المجتمعى بأهمية التعامل الإنسانى مع الحيوانات وعدم التخلى عن الكلاب الأليفة فى الشوارع.
وختم السقا قائلاً إن تحقيق التوازن بين أمان المواطنين وحقوق الحيوان ممكن وواقعى، ولكنه مرهون بالعلم والتنسيق بين الوزارات والمجتمع المدنى، بعيداً عن الحلول العشوائية التى تحول المشكلة إلى أزمة أكبر بدلاً من إنهائها.
مبادرات الرفق بالحيوان
من جانبه، يرى عمرو محمد، أحد مؤسسى مبادرات الرفق بالحيوان فى مصر، أن توصيف «كلاب ضالة» لا يليق بدولة ذات تاريخ حضارى مثل مصر، موضحاً أن المصريين القدماء قدسوا الكلاب وخلدوا صورها على جدران المعابد، ما يعكس مكانتها فى الوعى الإنسانى المصرى عبر العصور. وأشار إلى أن زيادة أعداد الكلاب فى الشوارع ليست نتيجة طبيعية، وإنما حصيلة لسياسات خاطئة فى التعامل مع الملف، وفى مقدمتها الاعتماد على التسميم والقتل العشوائى، وهى وسائل – بحسب قوله – «لم تكن حلاً يوماً ولن تكون»، لأنها لا تعالج جذور المشكلة ولا تمنع تكاثر الأعداد مرة أخرى.
وأكد أن النهج الحضارى لإدارة الظاهرة يتمثل فى برامج التعقيم والتطعيم، خاصة تعقيم الإناث، ما يؤدى إلى خفض معدلات التكاثر تدريجياً وظهور الدولة بصورة «حضارية»، شريطة تنفيذ هذه البرامج بالتنسيق بين الطب البيطرى وجمعيات حقوق الحيوان وشلاتر الإيواء ومتطوعين من محبى الحيوانات والأطباء البيطريين. وأضاف أن التوسع فى حملات التعقيم والتطعيم سينعكس بصورة مباشرة على أعداد الكلاب وسلوكها، وسيجعل السيطرة عليها أكثر سهولة كلما زادت تغطية هذه الحملات جغرافياً.
وانتقد عمرو محمد ما وصفه بضعف إتاحة الفرصة للمجتمع المدنى للتعاون الفعلى على الأرض، قائلاً إن «التعاون غالباً يظل فى إطار الكلام فقط، أما التنفيذ فيتوقف سريعاً ولا يستمر بصورة مستدامة»، رغم جاهزية المبادرات والمتطوعين للمشاركة فى الحل.
وأوضح أن الوصول إلى صيغة تضمن أمان المواطنين مع الحفاظ على حقوق الحيوان يتطلب مسارين متوازيين؛ الأول يتعلق برفع وعى المواطنين بكيفية التعامل مع الكلاب فى الشارع، سواء الجراء الصغيرة أو الكلاب البالغة، وتعليم الأطفال والكبار طرق التصرف الآمن عند مواجهة كلب شرس، لافتاً إلى أن السلوكيات الخاطئة للبشر كثيراً ما تكون سبباً مباشراً فى عدوانية الحيوانات. أما المسار الثانى فيتمثل فى التطبيق الفعلى والمنتظم لحملات التعقيم والتطعيم، مؤكداً أن انتشار الكلاب الشرسة سيختفى تدريجياً مع التنفيذ العلمى لهذه البرامج.
وشدد محمد على رفضه القاطع لفكرة الاستثمار فى الكلاب عبر تصديرها أو استخدام لحومها وجلودها، واصفاً ذلك بأنه «جريمة تمس الأخلاق والدين والعادات المصرية»، مؤكداً أن الكلاب ليست مادة تجارية وإنما كائنات حية لها دور مهم فى التوازن البيئى، مثل الحد من انتشار القوارض والزواحف. وحذر من أن تصدير الكلاب إلى بعض الدول الآسيوية قد يفتح الباب لاستخدامها فى أغراض غير إنسانية، فضلاً عما قد يسببه نقصها المفاجئ من خلل بيئى وازدياد انتشار الثعابين والعقارب فى بعض المناطق.
وختم قائلاً إن الطريق إلى حل الأزمة «ليس فى الرصاص أو السم»، وإنما فى العلم، والوعى، والتنسيق المؤسسى بين الدولة والمجتمع المدنى، بما يضمن حماية الإنسان والحيوان معاً ويحفظ صورة مصر كدولة ذات حضارة وإنسانية.