الزاد
الاعتراف الإسرائيلي الأحادي بما يسمى «أرض الصومال – صومالي لاند»، وما يصاحبه من حديث عن إقامة قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، لا يمكن التعامل معه باعتباره خبرًا عابرًا أو مناورة دبلوماسية محدودة، بل هو تطور بالغ الخطورة يمس جوهر الأمن القومي المصري، ويفتح بابًا واسعًا لإعادة رسم خرائط النفوذ في واحدة من أخطر مناطق العالم: القرن الأفريقي وباب المندب.
الحديث عن وجود عسكري إسرائيلي قرب باب المندب يعني ببساطة التحكم في أحد أهم شرايين الملاحة العالمية، ومن ثم القدرة على التأثير المباشر في حركة السفن المتجهة إلى قناة السويس، شريان الاقتصاد المصري والعالمي. وليس بعيدًا عن الأذهان أن مصر استخدمت مضيق باب المندب في حرب النصر أكتوبر 1973 كأداة ضغط استراتيجية على إسرائيل، وهو ما يجعل أي وجود عسكري إسرائيلي في هذه المنطقة استفزازًا مباشرًا للتاريخ والجغرافيا معًا، ورسالة مفادها أن تل أبيب تحاول تعويض إخفاقات الماضي بفرض واقع جديد على الأرض.
الأمر لا يتوقف عند إسرائيل وحدها. فإثيوبيا، التي تحولت سياساتها خلال السنوات الأخيرة إلى عامل تهديد مباشر للمصالح المصرية، تسعى بكل قوة إلى الحصول على منفذ بحري في هذه المنطقة، سواء عبر صومالي لاند أو غيرها. وجود إسرائيل في المعادلة يمنح أديس أبابا غطاءً سياسيًا وأمنيًا لتحقيق هذا الطموح، بما يعني عمليًا تطويق مصر من الجنوب والشرق، وخلق طوق ضغط استراتيجي يمتد من منابع النيل إلى بوابة البحر الأحمر.
في هذا السياق، تأتي رؤية اللواء د. سمير فرج، الخبير والمفكر العسكري والاستراتيجي، لتضع النقاط فوق الحروف. فرج يرى بوضوح أن محاولة إقامة كيان باسم «صومالي لاند» والاعتراف به دوليًا، خاصة من جانب إسرائيل، تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، وليس فقط تهديدًا لوحدة الصومال. ويؤكد أن أي مساس بوحدة الصومال هو مساس مباشر بأمن مصر القومي، وأن تفكيك الدول في القرن الأفريقي يخدم أجندات خارجية تستهدف الممرات المائية الاستراتيجية. ويضيف أن مصر مطالبة بلعب دور فاعل في دعم الدولة الصومالية سياسيًا وعسكريًا، تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، لمنع سيناريو التقسيم.
في هذا الإطار، جاء البيان الصادر عن وزارة الخارجية المصرية ليؤكد أن القاهرة تدرك حجم الخطر ولا تتعامل معه بخفة أو مجاملة سياسية. فقد جددت مصر إدانتها بأشد العبارات لاعتراف إسرائيل الأحادي بما يسمى «أرض الصومال»، واعتبرته انتهاكًا صارخًا لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتقويضًا لأسس السلم والأمن الدوليين، ومصدرًا مباشرًا لزعزعة الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي. وهو توصيف قانوني وسياسي بالغ الدقة، يعكس أن مصر لا ترى في هذا التحرك مجرد خلاف دبلوماسي، بل خرقًا للنظام الدولي القائم على احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها.
كما أكد البيان الرفض التام لأي اعتراف بكيانات موازية أو انفصالية نشأت بطرق غير شرعية وغير قانونية، في رسالة واضحة بأن القاهرة ترفض سياسة فرض الأمر الواقع، أيا كان الطرف الداعم لها أو المستفيد منها. وتشديد مصر على دعمها الكامل لوحدة وسيادة وسلامة الأراضي الصومالية، يتسق مع إدراكها أن الصومال ليس دولة بعيدة عن الحسابات المصرية، بل هو جزء أصيل من منظومة الأمن القومي العربي والأفريقي، وأن أي مساس باستقراره ينعكس مباشرة على أمن البحر الأحمر وقناة السويس. كما أن رفض مصر الصريح لأي إجراءات أحادية تمس السيادة الصومالية يعكس موقفًا حازمًا مفاده أن العبث بالجغرافيا السياسية للمنطقة خط أحمر، وأن القاهرة لن تقف موقف المتفرج أمام محاولات تفكيك الدول خدمةً لأجندات عسكرية أو استخباراتية.
في ضوء هذا المشهد، لا مجال للانتظار أو ردود الفعل المتأخرة، فالمعركة هنا استباقية، وتتطلب دعمًا سياسيًا ودبلوماسيًا صريحًا لوحدة الصومال، وتعزيز التعاون العسكري والأمني مع الدولة الصومالية، وتنسيقًا أوسع مع دول البحر الأحمر والقرن الأفريقي، خاصة جيبوتي وإريتريا والسودان، ونقل الملف بقوة إلى المنظمات الإقليمية والدولية باعتباره قضية أمن ملاحي دولي لا شأنًا محليًا.
ما يجري في صومالي لاند ليس شأنًا صوماليًا داخليًا، بل حلقة في مشروع أوسع لإعادة هندسة المنطقة على حساب الأمن القومي المصري. وإذا كانت إسرائيل تظن أن اللعب عند باب المندب ورقة ضغط، فإن التاريخ يقول إن هذه المنطقة كانت وستظل خطًا أحمر. وكما حذر اللواء د. سمير فرج، فإن التهاون في هذه اللحظة قد يفتح أبوابًا يصعب إغلاقها لاحقًا… فأمن مصر يبدأ من هناك، عند باب المندب، وعند وحدة الصومال.