مفهوم القصص القرآني وأهم مميزاته
في أعماق نصوص القرآن الكريم تنكشفُ لنا أروع القصص التي لا تَسْرِد فقط أحداثًا من الماضي، بل تحمل بين طياتها حِكمًا وأسرارًا للحاضر والمستقبل، هذه القصص ليست مجرد حكايات بلاغية، بل هي رسائل سامية تسير بهدوء في أعماق النفس البشرية، وتضع لنا خارطة طريق للفضيلة والتفكر.
مفهوم القصص القرآني
القصص: مصدر كالقص أو اسم مصدر منه، وقص فلان الشيء - من باب قتل - إذا تتبع أثره، وفي التنزيل: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [سوره القصص١١]، وخرج فلان في إثر فلان قصصًا ومنه: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [سورة الكهف ٦٤]، وقصَّ الخبر: حدث به على وجهه، والقِصة - بالكسر - الشأن والأمر، ولم يأت في القرآن لفظ القصة ولكن أتى لفظ (القصص): {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [سورة آل عمران ٦٢]، وسواء كان هذا اللفظ مصدرًا أو اسم مصدر فهو بمعنى المفعول؛ أي: الخبر المقصوص المحَدَّث به على وجهه.
أهم ميزات القصص القرآني
وقد أخطأ بعض الباحثين عندما يطلبون في القصص القرآني أن يستكمل أركان القصة بالمعنى المُحدَث التي هي مستمدة من الخيال ومبنية على قواعد فنون الكتابة [انظر: تاج العروس واللسان والمصباح المنير والمعجم الوسيط في هذه المادة]؛ وذلك لأنهم لم يفرقوا بين القصة بمعنى الحكاية والقصة بمعنى الخبر المحدث به على وجهه، والثاني هو المراد في القصص القرآني؛ لأن الأشخاص والزمان والمكان ليست بالضرورة أركانًا للخبر المحدث به.
فقد يبهم المكان والزمان، كما في قوله تعالى: {وَجَآءُوٓ أَبَاهُمۡ عِشَآءٗ يَبۡكُونَ} [سورة يوسف ١٦].
وقد يبهم الزمان، كما في قوله تعالى: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [سورة يوسف ٩٩].
وقد يبهم الشخص أو الأشخاص، كما في قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [سورة القلم ١٧].
فالذي يجب وجوده في القصص القرآني هو الحدث والعبرة، أما بقية عناصر القصة المُحدثَة فإنما توجد بحسب الحاجة إليها وأهميتها في القصة (الخبر)، فلو كان للشخصية مدخل كبير في الحدث فإنها تُذكر كمريم - عليها السلام - في قصتها، والهدهد في قصة سبأ، وكثيرًا ما تأتي الشخصية بصورة التنكير كما في قصة النملة، لأن الحدث مبناه منطق النملة وسماع سليمان عليه السلام لها.
وقد يهتم بإبراز الزمان كما في قصة أهل الكهف في قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [سورة الكهف ٢٥] وكذلك في قوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [سورة البقرة ٢٥٩] فالزمان المذكور إنما يُذْكَر بمقدار ما يحتاجه الحدث، وكذلك المكان كمصر والأحقاف والكهف وهذه تعدُ الميزة الأولى في القصص القرآني التي تميزه عن سائر القصص.
القصص القرآني
أما الميزة الثانية للقصص القرآني فهي الواقعية الصادقة الحقة، فليس فيه شيء من نسج الخيال والأساطير، أو ما يكذبه الواقع أو التاريخ، وسواء في هذا الصدق ما جاء لضرب المثل أو لم يكن كذلك، وإن جَوَز بعض علمائنا التقدير في الأول في المثل مع احتمال التحقيق، منهم: العلامة أبو السعود العمادي في قصة القرية الآمنة في سورة النحل [انظر: تفسيره إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم أول آيات هذه القصة (جـ٥ صـ ١٤٤)]، وفي قصة الرجلين [السابق نفسه في أولى آيات هذه القصة (ص ٢٢١)]، ولكن هذا لا يصح فإن مجرد القراءة بدون تأمل تكشف زيف احتمال التقدير في القصتين؛ ولكن العلامة أبا السعود لم يكن يعلم أن خبث الطوية سيدفع بعضهم إلى ادعاء تبني الإسلام للأساطير متبعين في ذلك خطوات أعداء الإسلام.
وذُكر من ميزات القصص القرآني أيضًا نسجه على أسلوب الإيجاز يجعله شبيهًا بالتذكير أقوى، مثال ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} [سورة القلم ٢٦-٢٨]، فجاء قوله لهم موجزًا ليناسب مقام التذكير.
ومن ميزاته كذلك التي ذكرها: طي ما يقتضيه الكلام الوارد في قوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [سورة يوسف ٢٥] فقد طوى حضور سيدها وطرقه للباب وإسراعهما إليه لفتحه.