في القرن الافريقي لم تعد المعارك تُدار بالدبابات ولا تُخاض الحروب بالرصاص كما كان في الماضي ،
فاليوم هناك سيناريو جديد يكتب تحسم فيه المعركة بخطوط تُرسم في الظل، وباتفاقيات تُوقَّع على الموانئ، وبزيارات لا يُعلن عن أسرارها.
هناك في مدخل البحر الأحمر الجنوبي حيث تتقاطع التجارة مع الجغرافيا، والسياسة مع التاريخ، تقف المنطقة اليوم على مفترق طريق حاد،
قد يعيد رسم نفوذ البحر الأحمر بالكامل.
فالثلاثاء والأربعاء الماضيين شهدت منطقة القرن الإفريقي سلسلة تحركات أمريكية استراتيجية محورية، انعكست بشكل مباشر على موازين القوى في المنطقة. حيث
زيارة قائد القوات الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) إلى أديس أبابا، و أرض الصومال، تبدو وكأنها جاءت على خلفية التحركات الذكية لمصر في الصومال وإريتريا وجيبوتي، بهدف إحكام الحصار على إثيوبيا ومنعها من الوصول إلى البحر الأحمر..
خاصة بعد نجاح القاهرة في احتواء جيبوتي عسكريا عبر اشتراكها في مناورات الموج الأحمر مؤاخرا بالتزامن مع الاستمرار في تنفيذ وتفعيل الاتفاق الموقع في أبريل الماضي
والذي هدفه المعلن جعل جيبوتي قاعدة بحرية لوجستية عالمية عبر قيام مصر بادارة اهم مرافقها البحرية
وبناء محطة حاويات جديدة برصيف ميناء دوراليه بطول 1450 متر وعمق 18 متر وبسعة 5 مليون حاوية سنويًا
وكذلك إنشاء منطقة لوجستية بمساحة 100 ألف متر مربع لتعزيز الصادرات المصرية للأسواق الإقليمية
وبناء محطة طاقة شمسية بقدرة 20 ميجاواط لتحويل ميناء دوراليه إلى ميناء أخضر
وجدير بالذكر أن هذا الميناء يُعد العمود الفقري لاقتصاد إثيوبيا الحبيسة وشريان حياة الشعب الإثيوبي، حيث تمر من خلاله أكثر من 95% من تجارة إثيوبيا.
وبهذه الحركة المصرية غير المتوقعة، على رقعة شطرنج لم تعد فيها القواعد مألوفة، يشتعل البحر الأحمر من جديد ليصبح مسرحًا لصراع استراتيجي صامت لكنه صوته مرتفع من الإثارة .
هذه المرة، لم يكن المحرك دبابة أو رصاصة، بل مناورة اقتصادية ذكية أطلقتها القاهرة حولت بها جيبوتي الي سلاح استراتيجي موجه نحو قلب العملاق الحبيس جغرافيا إثيوبيا.
وقد استفادت مصر في تحقيق ذلك من سياسة آبي أحمد العدوانية تجاه جيرانه في القرن الإفريقي،
وهي السياسة التي أدت إلى عزلة إثيوبيا وفتحت الأبواب أمام القاهرة لتعزيز موقعها في المنطقة.
فبعد أن ظنّ آبي أحمد بأنه أصبح "سيد القرن الإفريقي" عقب إنجاز مشروع سد النهضة دون إرادة مصر، وتوريط السودان في حرب أهلية..
انتقل إلى مرحلة جديدة من اللعبة واعلن هدف "تخليص إثيوبيا من الحصار الجغرافي" بالوصول إلى البحر الأحمر وانتزاع ميناء بالقوة أو التهديد. من الدولة المجاورة .
وصلت هذه الرسالة سريعًا إلى إريتريا، مع تزايد المخاوف من سعي إثيوبيا للسيطرة على ميناء مصوع بالإرهاب أو التهديد بالاجتياح العسكري. ولكنه أيضا وجد مصر هناك
تعزز من التعاون مع إريتريا في مجالات مختلفة، أبرزها استمرار دعم مصر لجهود حماية إريتريا من الاطماع الإثيوبية تعاون كامل وتحالف قوي أكده زيارة
الرئيس أسياس أفورقي إلى القاهرة نهاية الشهر الماضي .
وجاء هذا بالتزامن مع تعثّر مشروع إثيوبيا البحري في أرض الصومال، نتيجة رفض الدولة الصومالية لهذا الاتفاق بدعم سياسي وعسكري مصري
وفي هذا السياق، ومع التواجد المصري في باب المندب عبر جيبوتي، أصبح المشروع الإماراتي – الإثيوبي – الإسرائيلي لإحكام قبضتهم على مدخل البحر الأحمر الجنوبي مهددًا بالفشل. وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى التحرك سريعًا في الاتجاه المعاكس.
فوجود مصر في جيبوتي، ومن خلال إدارة موانئ استراتيجية ( كانت تدار قديما من أبوظبي قبل أن تطردها جيبوتي..)
يعني ذلك أن الاقتصاد الإثيوبي أصبح عرضة لضغوط سياسية وجغرافية مصدرها سيطرة القاهرة،
وفي الوقت نفسه فقدت إثيوبيا إلى حد كبير ورقة "شراء الاستقلال البحري" بسهولة. كما أن أي خيار بحري بديل لها — سواء عبر أرض الصومال أو إريتريا — أصبح محفوفًا بالمخاطر، لأن النظام الإقليمي نفسه بدأ يتغير. بتسيق مصري تركي وحضور إيراني .
وهكذا وعلى الرغم من إنجاز مشروع سد النهضة وحرب السودان الأهلية
، وجدت إثيوبيا نفسها محاصرة سياسيًا في ظل وضع داخلي هش عرقيًا، وأزمة اقتصادية خانقة أدت إلى موجة تضخم عنيفة بعد انهيار العملة، وارتفاع الدولار بنسبة 165% خلال الشهور الماضية، مما جرّد حكومة آبي أحمد من شعبيتها بشكل كبير.
في هذا المناخ، جاءت زيارة الجنرال الأمريكي داغفين أندرسون، قائد أفريكوم، إلى أديس أبابا يوم الثلاثاء الماضي، حيث التقى برئيس الوزراء آبي أحمد وكبار قيادات الجيش الإثيوبي. زيارة رُفعت فيها شعارات "الأمن الإقليمي" و"فرص التعاون العسكري"، لكن السياق الاستراتيجي يشير بوضوح إلى أهداف أعمق:
تأمين منافذ بحرية بديلة لإثيوبيا بعيدًا عن جيبوتي
فتح الباب لإمكانية إنشاء قاعدة أمريكية في أرض الصومال قرب مضيق باب المندب
تعزيز نفوذ المحور الأمريكي – الإثيوبي – الإماراتي – الإسرائيلي في مواجهة النفوذ المصري – التركي – الإيراني، ومن خلفهم النفوذ الصيني
هذه التحركات جاءت في توقيت بالغ الحساسية، وقد يمكن تفسيرها كضوء أخضر لتعديل موازين القوى على ساحل البحر الأحمر،
وربما سيترتب علي ذلك جذب لاعبين جدد إلى الصراع مثل فرنسا و روسيا في هذه المنطقة غاية في الأهمية
البحرية ويمر عبرها حوالي ربع إنتاج النفط العالمي ما ينذر بتحول التوتر إلى مواجهة إقليمية أوسع..
ويتفاقم الموقف في ظل التدهور الداخلي في إثيوبيا، حيث حققت ميليشيات فانو الأمهرية في الأيام الماضية تقدمًا لافتًا على الأرض، وسجلت انتصارات استراتيجية على الجيش الإثيوبي، كاشفةً عن هشاشة الحكومة الفيدرالية وعدم سيطرتها الكاملة على البلاد.
وهكذا يعود إلى الواجهة شبح حرب تيغراي (2020–2022)، التي انتهت ظاهريًا باتفاق بريتوريا، لكنها لم تُدفن فعليًا. فقد اتهمت الحكومة الإثيوبية في خطاب رسمي إلى الأمم المتحدة بتاريخ 2 أكتوبر جبهة تحرير تيغراي (TPLF) وإريتريا بتمويل وتعبئة وتوجيه ميليشيات فانو الأمهرية. وسواء كانت هذه الاتهامات دقيقة أم لا، فإن مجرد طرحها يعكس إدراك الحكومة الإثيوبية بأنها تخوض صراعًا على عدة جبهات، لا مجرد تمرد داخلي.
وبعد أن جُمعت على غير المعتاد قوى كانت تُعرف سابقًا كـأعداء بينهم تاريخ طويل من الدماء والصراع علي الارض والتفوذ
،أصبح هولاء الاعداء الأمهرة والتيغراي وإريتريا، لديهم هدف مشترك وهو التخلص من سلطة آبي أحمد أو إسقاط مشروعه الاستعماري في المنطقة.
وفي ظل هذا المشهد المعقد، يصبح السؤال المنطقي: كيف يمكن لإثيوبيا أن تدخل مواجهة خارجية مع إريتريا أو الصومال للحصول على ميناء، بينما وضعها الداخلي يتفكك؟
إريتريا أكدت بدورها أن أي محاولة إثيوبية للتوسع نحو ميناء عصب أو أي منفذ على البحر الأحمر سيُقابل بالدم وبالتعاون مع الحلفاء.
وهنا ترى الولايات المتحدة أن الحل الأقل تكلفة هو عبر أرض الصومال وتحديدًا ميناء بربرة. وعلي إثيوبيا الا تذهب لحرب مع إريتريا.
فميناء بربرة يمثل عنصرًا حاسمًا في معادلة النفوذ، خاصة بعد مذكرة التفاهم الموقعة عام 2024 بين إثيوبيا وأرض الصومال لمنح أديس أبابا استخدام الميناء، رغم أنها تعطلت بفعل الضغوط السياسية الإقليمية.
لكن إذا تدخلت واشنطن بثقلها السياسي والعسكري، فقد توفر الغطاء اللازم لجعل "جمهورية أرض الصومال" واقعًا معترفًا به، يفسح المجال لتنفيذ المشاريع الأمريكية والإثيوبية والإسرائيلية.
لذلك في اليوم التالي لمغادرة الجنرال الأمريكي إثيوبيا، هبط في أرض الصومال، حيث زار مدينة بربرة، وشملت جولته المطار والميناء، إلى جانب محادثات غير معلنة تفضحها لغة السياسة و المعطيات التي تؤشر أن المنطقة تتجه نحو وجود بحري أمريكي محتمل، يوازن المشروع المصري الذي يسعى إلى تطويق إثيوبيا.
وقد يكون الثمن: وعدًا بالاعتراف الدولي بأرض الصومال، مقابل تحويل بربرة إلى قاعدة عسكرية أمريكية، تحت غطاء مواجهة تهديدات الحوثيين والقرصنة، بينما الهدف الحقيقي هو فتح منفذ بحري بديل لإثيوبيا بعيدًا عن جيبوتي وميناء عصب الإريتري.
خاصة ان الحليف الإماراتي هي من تدير ميناء بربرة
وهكذا ما بين انهيار الاتفاقات، وتصاعد الأزمات الداخلية، ودعم الميليشيات، وسباق الموانئ، يدخل البحر الأحمر مرحلة جديدة من الفوضى الاستراتيجية.. يشهد فيها
القرن الإفريقي إعادة تشكيل حقيقية لموازين القوة.
فمصر تمد نفوذها نحو جيبوتي – الشريان الحيوي لإثيوبيا – بينما تحركت أمريكا بثقلها لإنقاذ الحليف الإثيوبي ومنع عزله بحريًا.
و لم يعد السؤال: هل تحصل إثيوبيا على منفذ إلى البحر؟
بل أصبح السؤال الأخطر:
هل يتحول البحر الأحمر إلى شرارة حرب إقليمية جديدة؟
فمن لا يملك طريق الماء، يسير دائمًا إلى الحرب.
ومصر منبع نيلها في الأسر
وإثيوبيا اليوم بلا بحر
تحاصرها الجغرافيا من الخارج، وتمزقها التناقضات العرقية في الداخل
وحين يجف النهر، لا تموت الأسماك أولاً… بل تُكشف الحقيقة."
واليوم، وقد بدأت مياه القرن الإفريقي في الجفاف سياسيًا واقتصاديًا، انكشفت الحقائق:
إثيوبيا لم تعد قوة صاعدة بل دولة تبحث عن منفذ نجاة،
وأمريكا لا تتحرك من أجل السلام بل من أجل إنقاذ لعبة الموانئ الإماراتية الإسرائيلية
ومصر لا تلعب دفاعًا بل تعيد رسم حدود القوة دون إطلاق رصاصة.
في هذه الرقعة، لا مكان للضعفاء، ولا حياد للجغرافيا.
البحر الأحمر لم يعد ممرًا للتجارة فقط … بل أصبح خط مواجهة بين خرائط جديدة لم تُرسم بعد
حيث تتقاطع المصالح المحلية (حاجة إثيوبيا للبحر، سعي أرض الصومال للاعتراف) مع الأجندات الإقليمية والدولية المتعارضة.