عندما أرجع إلى مقالات ميشيل دى مونتانى، الفيلسوف الفرنسى فى القرن السادس عشر، وأتأملها وأنا أتابع أخبار حرب الإبادة فى غزة، أفاجأ براهنيتها المذهلة.
ففى زمنٍ مزقته الحروب الدينية، رأى دى مونتانى بأم عينيه كيف يتحوّل اليقين الأخلاقى إلى آلة قتل لا تبقى ولا تذر، وكيف يجد البشر فى القسوة لذّة تتجاوز ضرورة الدفاع عن النفس. وقد خلص إلى أن أبشع الفظائع لا يرتكبها الأشرار التقليديون، بل أولئك الموقنون بأنهم يحسنون صنعاً، وأنهم ينفّذون إرادة الله أو يدافعون عن «الخير المطلق».
هذا المنطق القديم يجد صداه اليوم فى الخطاب الإسرائيلى حول غزّة، إذ تُستعاد قصة «عماليق» التوراتية — العدوّ الذى «أُمر» الرب بإبادته — بوصفها مرجعاً بلاغياً وسياسياً. فاستحضار هذا النموذج من «الإبادة المقدّسة» لم يعد محصوراً فى الطقوس الدينية، بل صار يطفو فى تصريحات مسئولين إسرائيليين يصفون سكان غزّة بالحيوانات، ويدعون إلى محو المدن، أو تجويع الملايين، أو تهجيرهم قسراً.
كان دى مونتانى قد حذّر من هذا المزج القاتل بين العنف واليقين. فحين يتخيّل طرفٌ ما أن الله يقف إلى جانبه، تغدو القسوة «واجباً»، وتتحوّل الحرب إلى تطهير أخلاقى، ويصبح الخصم شراً مطلقاً لا يستحق الحياة. وهنا يتلاشى الفارق بين الضرورة الجنائية والقسوة المحضة، فالقتل فى حربٍ دفاعية قد يكون مُكرهاً، أما تحويل العقاب إلى عقيدة، وتحويل العدوّ إلى «عماليق» جدد، فذلك ما كان مونتانى يراه باب الجحيم.
وقد رصد الفيلسوف ديناميّة تتكرّر اليوم أمام أعين العالم: تبدأ القسوة باستهداف طرف محدّد، ثم تتوسّع لتشمل الجميع، حتى الأطفال. ومن هنا قد تحوّلت غزّة فى تصريحات كثير من القادة الإسرائيليين إلى «مكان لا يصلح لعيش البشر»، وإلى مساحة مشروعة للقتل والهدم، وفى هذا التلاشى للخطوط الحمراء تتجلّى رؤية مونتانى: القسوة لا تشبع؛ إنّها تتضخّم كلما مورست.
ما يقدمه دى مونتانى لنا اليوم ليس درساً تاريخياً فحسب، بل إنه معيار أخلاقى صارم: كل عنفٍ يخلو من الخوف من الخطأ يتحوّل إلى همجية، وكل يقين يبرّر الألم يصبح دعوة إلى الإبادة. وغزّة مثال حى على أن القسوة حين تُشرعن نفسها — دينياً أو قومياً — تجر العالم إلى هاوية لا قاع لها.
إنّ العودة إلى دى مونتانى ليست رفاهية فكرية، بل صرخة ضمير فى وجه القتل الجماعى للأبرياء، واستعادة للحس الإنسانى المهدد وسط الغارات الجوية وصراخ الأبرياء. فلا «عماليق» اليوم سوى أوهام قاتلة فى أذهان من يسوّغون القتل ويبرّرون المجازر، أما سكان غزة الأبرياء فهم ضحايا قسوةٍ طالما حذر منها دى مونتانى قبل خمسة قرون، وما زال العالم عاجزاً عن الاستجابة، صامتاً أمام دماء تُسفك بلا رحمة.