الزاد
هناك لحظات تُقاس بما يتركه الفن فى الروح…من أثر طيب لم يزل يسكن النفوس.
ومن بين هذه اللحظات، يلمع نجاح الأوركسترا السيمفونى المصرى فى ألمانيا كما تلمع نبرة عالية من صوت الكمان وسط صمت كبير فى ليلة شتاء تجمدت فيها اطرافنا، بينما،بينما ارواحنا دافئه من فرط عذوبة الموسيقى.
فى أكتوبر الماضى، عبرت أوركسترا مصرية حدودنا، ومضت نحو قلب اوربا، فى وقت كانت فيه كل الأنظار معلّقة على افتتاح المتحف الكبير. ورغم أن الأضواء انحازت إلى التاريخ هذه المرة، ظل الفن ينسج خيطه الخاص… خيطًا لا يراه إلا من يعرف معنى الفن.
من الأشياء المفرحة والمبهجة ذلك النجاح الاستثنائى الذى حققه الأوركسترا السيمفونى المصرى فى ألمانيا خلال زيارته فى أكتوبر الماضى. جاءت الجولة فى توقيت بالغ الحساسية، تزامن مع الاستعدادات ثم افتتاح المتحف المصرى الكبير، وهو الحدث الذى غطّى على كل الأخبار الفنية والثقافية فى العالم، الأمر الذى جعل جولة الأوركسترا لا تحصل على الاهتمام الذى يليق بحجمها وقيمتها.
ومع ذلك، فالجمال الحقيقى فى هذه التجربة هو أن هذا النجاح تحقق وسط حملات لا تتوقف من التشكيك فى هذا الكيان الفنى العريق، الذى يتبع دار الأوبرا المصرية. احتفاظ الأوركسترا بمكانته الدولية، والذى ظهر بوضوح من خلال هذه الجولة التى شملت ثمانى مدن ألمانية كبرى، من بينها كولن وبرلين، هو أكثر ما أسعدنى شخصيًا. نعم المايسترو أحمد الصعيدى استعان بمجموعة من أهم عازفى الكلاسيك من خارج الأوركسترا لضمان المستوى الذى يليق باسم مصر فى الخارج، لكن هؤلاء فى النهاية أبناء هذا البلد العظيم، وجميعهم من أبناء الأوبرا والاوركسترا فى الأساس، كما أنهم من خريجى أكاديمية الفنون، ذلك الصرح الذى قدّم – وما زال يقدم – أهم الفنانين والعازفين فى العالم العربى. قيمة هذه الأكاديمية امتدت من المحيط إلى الخليج، وخرج منها أجيال تحمل بصمة مصرية لا تخطئها عين.
أما استقبال الجمهور الألمانى للأوركسترا فكان مصدر سعادة خاصة، لأنه جمهور ليس كأى جمهور. فى معظم الحفلات، كان التصفيق الحاد يمتد إلى عشر دقائق كاملة، وهو أمر لا يتكرر كثيرًا فى قاعات الموسيقى الغربية. الأكثر روعة أن جميع الحفلات كانت مباعة بالكامل، وجمهورها جمهور حقيقى، تربّى وعاش على الموسيقى الكلاسيكية، فى بلد أنجبت يوهان سيباستيان باخ، لودفيج فان بيتهوفن، جورج فريدريش هاندل، يوهانس برامز، وروبرت شومان… فما بالك أن يعتلى مسرحهم أوركسترا عربى بهذا المستوى.
فى ألمانيا، الجمهور ليس جمهورًا… إنه ذاكرة كاملة من النغم.
وحين يُصفّق هذا الجمهور عشر دقائق متواصلة، فذلك ليس إعجابًا فقط، بل انحناءة احترام من بلد استمع فى يوم من الايام وما زال يستمع إلى باخ وبيتهوفن وبرامز وشومان.
وحين تكون الحفلات «مباعة بالكامل»، فهذا يعنى أن هناك من عبر آلاف الكيلومترات ليجلس أمام موسيقى يعرف أنها ستلمس شيئًا عميقًا فيه.
أكثر ما أحبه فى المايسترو أحمد الصعيدى هى تلك العزيمة التى يتحلى بها. يتعامل مع كل تجربة وكأنه شاب فى الثلاثينيات من عمره. وما لا يعرفه كثيرون أن هذا الرجل يصر دائمًا على السفر والاحتكاك بالعالم رغم ما يتعرض له من انتقادات حادة، لكنه يختار أن يعزل الأوركسترا عن أى ضغوط أو أزمات، ليخرج منهم أفضل أداء ممكن.
الصعيدى، لا يتأثر بنقد، ولا يسمح لرياح الخارج أن تدخل إلى غرفة البروفة. مايسترو، يقود ليصل صوتنا إلى أبعد من المسارح… إلى حيث تقيم مصر الحقيقية.
الرحلة نفسها لم تكن سهلة، وفقًا لما وصلنى من معلومات. كانت شاقة للغاية، فالحفلات احتاجت إلى التنقل بين ثمانى مدن ألمانية، مع إقامة أحد عشر حفلًا كاملة. وهذا ليس بالأمر الهين على عازف يستخدم كل مشاعره وأحاسيسه ويده وعقله ليصل للمستوى المطلوب، وسط بروفات مكثفة ومتتابعة بلا وقت كافٍ للراحة. لكن لحظة النجاح، وسعادة الجمهور، ودفء التصفيق، كلها كانت كفيلة بإذابة هذا التعب بالكامل من نفوس العازفين.
هذه الجولة ليست مجرد رحلة فنية… إنها رسالة قوة ثقافية، تؤكد أن مصر ما زالت قادرة على أن تكون فى طليعة المشهد الموسيقى العالمى، مهما كانت الظروف، ومهما حاول البعض التقليل من قيمة مؤسساتها.
نعم لم تكن جولة موسيقية فقط…
كانت رسالة.
إن مصر، فنها لا يهُمّش أو يغطّيه الغبار، وستظل قادرة على أن تعزف.
وأن الموسيقى، حين تخرج من قلب صادق، تستطيع أن تهزم ضجيج العالم كله.