رحلة من معابد الفراعنة إلى ساحة «البدوى»
موالد الأولياء ... احتفال تقليد أم بدعة؟!
يسرى الاحتفال الدينى فى دماء المصريين منذ فجر التاريخ، فمن مواكب «أعياد الإله آمون» فى طيبة، واحتفالات «وادى الجميلات» و«عيد الحصاد» فى مصر القديمة، التى كانت تُمجّد الإله وتربط بين الطقوس الدينية والفرح الشعبى، إلى مواسم موالد آل البيت آولياء الله الصالحين التى باتت سمة متجذّرة فى الوجدان المصرى.
ومع دخول الإسلام إلى مصر، لم تختفَ تلك الاحتفالات، بل اكتست بثوبٍ جديد؛ فكان مولد النبى محمد صلى الله عليه وسلم أول مولد يُقام فى مصر فى العصر الفاطمى فى القرن الرابع الهجرى، حيث اتخذته الدولة مناسبة دينية واجتماعية تُظهر فيها حبها للنبى وتُوزع فيها الطعام والحلوى على الناس تطبيقًا لسنة لوصية النبى فى إطعام الفقراء والمساكين.
ثم تطوّر التقليد ليشمل أولياء الله الصالحين، فكان مولد السيد أحمد البدوى فى طنطا — منذ القرن السابع الهجرى — من أشهر تلك المواسم وأكثرها جذبًا للمريدين والزوار من شتى أنحاء البلاد، حتى صار علامة فارقة فى الحياة الدينية والشعبية المصرية.
تجازوات مولد السيد البدوي
ولم يخلُ مولد السيد أحمد البدوى هذا العام من الجدل، بعدما تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعى مقاطع مصوّرة تُظهر ممارسات خارجة عن إطار الذكر والروحانية، من رقص وتمسح وتبرك بالمقام، ما أثار موجة انتقادات واسعة حول مدى التزام الاحتفال بضوابط الشرع، بل فتح الباب مجددًا للحديث عن مشروعية الموالد ذاتها.
وفى مواجهة تلك الاتهامات، صرحت المشيخة العامة للطرق الصوفية بأن «الاحتفال بمولد السيد البدوى وغيره من أولياء الله الصالحين موروث دينى واجتماعى أصيل، تعتز به الأمة الإسلامية، ما دام منضبطًا بأحكام الشريعة».
كما أكد الدكتور علاء أبوالعزائم، رئيس الاتحاد العالمى للطرق الصوفية وشيخ الطريقة العزمية وعضو المجلس الأعلى للطرق الصوفية، أن الاحتفال بمولد السيد أحمد البدوى ليس بدعة كما يزعم البعض، وأن الهجمات المتكررة على المولد تكشف عن عقلية متشددة وحملة ممنهجة تحاول فرض رؤيتها الأحادية للدين، وهو ما يتعارض مع طبيعة المجتمع المصرى المتسامح والمتعدد.
مشروعية الاحتفال
ومن جانبه، قال الدكتور على جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومفتى الجمهورية السابق، إن الاحتفال بالموالد لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، بل إن إحياء ذكرى الأولياء وحبهم والفرح بهم أمر مرغوب فيه شرعًا لما فيه من التأسى بهم والسير على طريقهم، ويعكس امتدادًا لتراثٍ روحى واجتماعى عميق يجسد قيم المحبة والتراحم فى الأمة، موضحًا أن حديث النبى محمد صلى الله عليه وسلم: «لا تجتمع أمتى على ضلالة» دليلٌ على أن الأمة إذا أجمعت على أمرٍ من أمور الخير فهو عند الله حسن.
وأضافت أن الأفعال المحرمة خلال هذه المناسبات، مثل الاختلاط الفاحش بين الرجال والنساء وغيرها، يجب إنكارها وتنبيه المخالفين حفاظًا على المقصد الشرعى من الاحتفال.
وتابع جمعة: إن الإسلام دين رحمة واتساع، يخاطب البشر فى كل زمانٍ ومكان، وقد وسَّع النبى محمد صلى الله عليه وسلم دائرة الخير حين قال: «من سنَّ سنّةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»، مؤكدًا أن الاحتفال بالأولياء الصالحين من السنن الحسنة التى تُذكّر الناس بسيرهم وأخلاقهم وتدعو إلى الاقتداء بهم.
كما أكد الشيخ محمود الطحان، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أن الاحتفال بموالد آل بيت النبى محمد صلى الله عليه وسلم يعد عادة راسخة فى وجدان المصريين، مشددًا على ضرورة أن يتم فى إطار الأدب الشرعى وبنية خالصة لله تعالى، بعيدًا عن أى مخالفات أو ممارسات تسيء للدين أو تزعج المواطنين.
وأيضًا، قال الدكتور عبد المنعم فؤاد، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر والمشرف العام على الأنشطة العلمية فى رواق الأزهر، إن بعض ما يُعرض فى الموالد من فوضى أخلاقية، رقص بهلوانى، ومظاهر تهريج تُنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعى، لا يمت للدين بصلة ولا يعكس التصوف الأصيل، الذى عرف تاريخيًا بـتهذيب النفس وسمو الأخلاق.
الموالد فى الوجدان المصري
ورغم أن الجدل حول الموالد يعود إلى قرون مضت، فإنها ظلت تحتل مكانة خاصة فى الوجدان الشعبى المصرى، تجمع بين العبادة والبهجة، وتشكّل مظهرًا من مظاهر التصوف الشعبى الذى امتزجت فيه الروح بالدنيا، والدين بالفرح.
يقول الدكتور محمد الجوهرى، أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة، فى كتابه «دراسات فى الفولكلور المصري»: إن الموالد ليست مجرد احتفالات دينية، بل هى تعبير عن نزعة مصرية قديمة نحو الاحتفال بالحياة والرموز الروحية، وهى امتداد ثقافى لمواسم الفرح والعبادة التى عرفها المصرى منذ آلاف السنين.
وتوضح الدكتورة عائشة شكر فى دراستها الفلكلورية «موالد الأولياء والقديسين» أن الموالد فى مصر تتشابه إلى درجة تجعل من الصعب التمييز بين احتفال يُقام لولى مسلم أو لقديس مسيحى، إذ يجمعهما الجوهر الإنسانى المصرى الواحد فى التعبير عن الحب والقداسة وتكريم الرموز الروحية.
وترى "شكر" أن الموالد تُعد من أقدم الظواهر الفلكلورية فى المجتمع المصرى، لما تحتويه من عناصر متنوعة تجمع بين المعتقدات الشعبية فى كرامات الأولياء والممارسات التى تُرسخ هذه المعتقدات، إلى جانب مزيج من الفنون والأنشطة الدينية والثقافية والاجتماعية التى تعكس عمق التراث الشعبى المصرى.
