تأملات
إذا كان المنطق يقرر أنه يجب التعامل مع مساعى إنهاء الأزمة الجارية فى غزة بعد حرب استمرت قرابة العامين بعقل وقلب مفتوحين، فإن هذا المنطق ذاته يفرض علينا التعاطى مع مثل هذه المساعى بحذر خاصة إذا كانت تقودها وتديرها الولايات المتحدة الداعم الرئيسى لإسرائيل سواء فى حربها على غزة أو سواء فى تعزيز وجود الدولة العبرية على الساحة فى الشرق الأوسط منذ نشأتها.
مصدر القلق أن المحاولة الأمريكية لترتيب وضعيات اليوم التالى للحرب فى غزة لا تنطلق سوى من المصالح والرؤى الإسرائيلية مع بعض الجوانب التى تصب فى تحسين وضع الفلسطينيين على المستوى الإنسانى ذرا للرماد فى العيون ولتخفيف حدة الانتقادات الدولية لإسرائيل بسبب التردى الذى وصلت إليه أوضاع الفلسطينيين هناك بعد حرب الإبادة التى واصلتها تل أبيب على مدار الأربعة والعشرين شهرا الماضية.
على هذه الخلفية ربما يجب التعامل مع خطة ترامب بشأن ترتيبات الأوضاع فى غزة والتى يمثلها مشروع القرار الأمريكى الذى تعتزم واشنطن طرحه أمام مجلس الأمن ويقضى بإنشاء قوة دولية فى غزة لمدة عامين على الأقل من أجل فرض السلام وليس حفظه.. مع الأخذ فى الاعتبار الفارق الكبير بين الأمرين.
بعيدا عن تفاصيل الخطة الأمريكية فإن المبادئ التى تقوم عليها إنما تتمثل فى ضمان أن تكون لإسرائيل اليد العليا فى التعامل مع الشأن الفلسطينى وخاصة فى غزة، مع العمل على تحييد أى أخطار تمثلها غزة مستقبلا. بمقتضى ذلك لم يكن غريبا الموقف الذى عبر عنه الرئيس الأمريكى ترامب حين راح يعتبر القصف الإسرائيلى لغزة لا يمثل خرقا لاتفاق وقف إطلاق النار.
ربما كان يمكن تفهم موقفه لو أن الأمر اقتصر على القيام بذلك مرة واحدة ردا على مقتل جندى إسرائيلى كما زعمت تل أبيب، غير أن المشكلة أن القصف ما زال متواصلا حتى اللحظة للدرجة التى راح معها مواطنون فلسطينيون فى غزة يعربون عن شعورهم بأن الحرب لم تنته بعد. يشير ذلك إلى أن واشنطن تسعى لأن يكون سلام غزة تحت نيران القصف الإسرائيلى، ما يفقده معناه ويقضى على دعاوى انهاء الحرب.
إذا أضفنا إلى ذلك الجانب المتعلق بنزع سلاح الفصائل الفلسطينية وهو الأمر الذى تتضمنه الخطة الأمريكية وأن يتم ذلك من خلال القوة الدولية المزمع تشكيلها، أمكن لنا أن نتصور المستقبل الذى ينتظر غزة ويحولها إلى إقليم لا حول له ولا قوة ولتصبح أوضاعه تحت رحمة الرؤية الإسرائيلية تقرر فى أى الاتجاهات تكون. وقد يكون ذلك بداية النهاية الحقيقية للقضية الفلسطينية فى ضوء حقيقة أن الضفة تعتبر بحكم الواقع منزوعة السلاح وتقع تحت الهيمنة الإسرائيلية تمهيدًا لضمها.
ويكشف صحة الرؤية التى نقدمها المواقف الصادرة من الجانب الإسرائيلى والتى ترى أن مشروع القرار الأمريكى يميل نحو مطالب تل أبيب وهو ما أكدته صحيفة هأرتس بإشارتها إلى وجود تنسيق أمريكى مع إسرائيل بشأن بنود خطة ترامب، هذا فضلا عن اشتراطات إسرائيل بأن يكون لها حق قبول ورفض الدول التى تشارك فى تلك القوة مع تأكيدها على لسان المتحدثة باسم الحكومة الإسرائيلية على أن تل أبيب تعمل من أجل سيطرة أمنية شاملة على القطاع.
وعلى ذلك فإن أى تعاطٍ عربى أو إسلامى وكذلك فلسطينى مع المشروع الأمريكى يجب أن يضع فى اعتباره القضية الأساسية المتعلقة بالمستقبل الفلسطينى وما إذا كانت تلك الخطة تنتهى إلى ما يضمن إقامة دولة فلسطينية لها كل مقومات الدولة أم لا؟ بدون ذلك فإن خطة ترامب ستكون المسمار الأخير فى نعش القضية الفلسطينية.