الحاصلة على جائزة كتارا لهذا العام لـ«الوفد»
رولا غانم: للحرية صوت لا يسمعه العبيد
تظل فلسطين جرحاً مفتوحاً فى الوجدان العربى، ونداءً لا يخبو فى ضمير كل من حمل القلم سلاحاً والكلمة وطناً. هى ليست فقط قضية سياسية، بل هى مرآة لشرف الإنسانية، واختبار دائم للضمير الجمعى. ومن بين الأصوات التى ارتفعت لتروى حكاية هذا الوطن الجريح، تبرز الروائية الفلسطينية الدكتورة رولا خالد غانم، التى نسجت من الألم أملاً، ومن الحكاية مقاومة.
رولا غانم، التى فازت بجائزة كتارا للرواية العربية لعام 2025 عن روايتها «تنهيدة حرية»، لم تكن مجرد كاتبة تسرد أحداثاً، بل كانت شاهدة على معاناة شعبها، وقاصة لصوت الأسيرات والأسرى، وراوية لقصص النساء الفلسطينيات اللواتى يحملن الوطن فى قلوبهن. وفى روايتها السادسة والفائزة بالجائزة، تناولت قضايا اللجوء والتشتت، داعية إلى الثورة على الظلم، وغارسة الأمل فى النفوس رغم فظاظة الواقع.

تؤمن «غانم» بأن الكتابة عن فلسطين ليست استدعاء للذاكرة، بل هى وجود إنسانى برمته. فهى ترى أن السرد لا يتحقق ما لم يحمل الحكاية، والحكاية ليست عبوراً إذا كان المحكى عنه شعباً يتضور ألماً ويكافح درءاً لخطر يهدد وجوده. وبالنسبة لها، فلسطين ليست مسرودة، إنما هى مرتكز إنسانى تعيشه لا تحكى عنه.
فى هذا الحوار، نغوص فى عالم رولا خالد غانم الروائية الفلسطينية الإبداعى، ونتتبع كيف تحولت أحزانها الخاصة والعامة إلى نوافذ أمل وقوة، وكيف ينسج قلمها هموم القضية، ليقدم صوتاً جديداً ومرآة صادقة للواقع الفلسطينى والعربى، ونستمع إلى آرائها حول القضايا السياسية الراهنة، ودور مصر فى دعم القضية الفلسطينية، وكيف يمكن للكلمة أن تكون جسراً بين الشعوب، ووسيلة للحفاظ على الهوية والعزة.
< كيف تصفين لحظة إعلان فوزك بجائزة كتارا هذا العام؟
- لم أكن أتوقع شيئاً محدداً، رغم أننى كنت أعلم أن العمل يحمل بذرة مختلفة. عندما أعلنوا اسمى، شعرت بأن شيئاً ما قد تم الاعتراف به أخيراً، ليس فى شخص رولا فقط، بل فى كل تلك السنين التى كتبت فيها عن وجع فلسطين، من منفاها الداخلى والخارجى. وكانت لحظة اختلطت فيها الدهشة بالدموع، وراودنى وجه أمى، التى فقدتها قبل أن أراها. فحينما نظرت إلى السقف، تخيلت أن أمى وأبى يراقباننى من الأعلى. وكانت لحظة مؤثرة جداً، شعرت فيها بأنهما معى رغم غيابهما، يدعماننى ويشجعاننى ويفخران بابنتهما. تلك الصورة ملأتنى قوة وصبراً، وأدركت أننى لست وحيدة فى هذا العالم.
< من أين تنبع حكاياتك؟ من الذاكرة؟ الواقع؟ أم الخيال؟
- حكاياتى مزيج ما بين الواقع والخيال، والكاتب ابن بيئته فمن الطبيعى أن يعبر عن قضايا وهموم شعبه، وأنا مثل أدباء فلسطين أؤمن بحق بلادى فى الحرية والعيش بكرامة، فرواياتى تدعو لإقامة ثورة على جميع أشكال الظلم، حتى تستطع شمس العدالة، وهى تحمل ذكريات وحكايات الإنسان الفلسطينى، من أجل الحفاظ على التراث والهوية الفلسطينية والاستفادة من من تجارب وثقافة الأجيال السابقة.
< ما الدور الذى ترينه للرواية فى توثيق القضية الفلسطينية؟ وهل تشعرين بأن دورها تغير بعد الأحداث الأخيرة؟
- الرواية ليست وثيقة، لكنها الذاكرة التى تنبض، والتى لا تجففها السياسة ولا تشوهها الأخبار العاجلة. وهى الذاكرة التى لا تخضع للرقابة، والتى تستطيع أن تمس قلب القارئ فى أقصى الأرض دون أن ترفع شعاراً. وبعد الأحداث الأخيرة، باتت الرواية أكثر ضرورة، لأنها لم تعد فقط تحكى عن وطن مسلوب، بل عن بشر يحاولون أن يحتفظوا بوجودهم وإنسانيتهم وسط الحطام.
< هل تؤمنين بأن الرواية تقول ما لا يستطيع البيان السياسى أن يعلنه؟
- الروائى مهنته ليست السياسة، ولا يمتهن السياسة كالسياسى، لكن من كون الرواية مزيجاً ما بين الواقع والخيال ربما يكون أكثر جرأة من السياسى، وأن يقول ما لا يتجرؤ على قوله السياسى، والسياسة حاضرة فى الروايات الفلسطينية من كون الفلسطينى صاحب قضية وحق ويعيش ظروف استثنائية.
< هل ترين أن الرواية اليوم تستطيع أن تكون سلاح مقاومة؟
- نعم تستطيع، فالكلمة مؤثرة وأقوى من الرصاص، وهى أنجح وسيلة لتحرير الشعوب، وأكبر دليل اغتيال غسان كنفانى وناجى العلى وغيرهما، فالأدب والفن الجسور الأقوى والأمتن والأكثر تأثيراً فى إيصال رسائل الشعوب، وحك الأدمغة.
< كيف ترين الدور المصرى فى دعم القضية الفلسطينية؟
- دور مصر كبير فى دعم القضية الفلسطينية على مدى التاريخ، رغم كل ما تمر به، وما زال الأديب المصرى ينادى بحق فلسطين بالحرية. لكننى أتمنى أن نعود إلى زمن كانت فيه القاهرة منارة للثقافة العربية. نحتاج لدعم ثقاقى واضح، منح أدبية للفلسطينيين، وفتح الأبواب أمام روايتهم لتصل للجمهور العربى. والثقافة وحدها اليوم قادرة على خلق جسر بين الشعوب حين تنقطع السبل الأخرى.
< هل ترين أن المثقف العربى أدى دوره تجاه فلسطين بما يكفى؟
- المثقف العربى ما زال يحاول إنصاف فلسطين وهو أكثر من يعول عليه هو والشعوب الحرة، والحق يحتاج لمدافعين عنه، وهناك مثقفون فى بلدان حليفة وشقيقة، كانوا وما زالوا صوت الحق الفلسطينى ولعبوا دوراً كبيراً فى بلورة الوعى الوطنى ووثقوا التجربة النضالية الفلسطينية.
< ما مسئولية الكاتب العربى اليوم فى ظل الانقسامات والخرائط الجديدة؟
- مسئوليته كبيرة فهو ضمير الأوطان ولسان حال المستضعفين والمظلومين والضعفاء، لذا يجب أن يصدح قلمه بصوت الحق، وألا يكون متملقاً بل يخدم القضايا العادلة كقضيتنا، وأن يرسم خريطة تتسع لنا جميعاً، وأن يلم ما فرقته السياسة.
< لو أتيح لك أن تكتبى رسالة واحدة من خلال جملة واحدة لفلسطين، ماذا تقولين؟
- إن للحرية صوتاً لا يسمعه العبيد، وأنت حرة حين أغلقت الخط مع رولا خالد، تركت خلفها شيئاً يشبه أثر الحبر حين يجف على الورق، لكنه لا يمحى. كلماتها لا تصرخ، لكنها تنزف. لا تدعى البطولة، لكنها تعرف كيف تصوغ الضعف قوة، والمأساة معنى. ومن بين الحروف التى كتبتها، ومن بين وجع فلسطين العالق فى الذاكرة والهوية، ترسم رولا غانم صورة كاتبة لا تلهث خلف الضوء، بل تصنعه من داخل الظلمة. وفى زمن ازدحمت فيه الكلمات، ظلت رولا تكتب كمن تسير حافية على الأسلاك، لا تهرب من الوجع، ولا تستعيره. بل تكتبه، كما يكتب الوطن بالدم، هكذا حاورناها، وهكذا ننتظر منها المزيد.
تقول رولا غانم فى إحدى رواياتها: «نحن لا نحمل الوطن على أكتافنا، بل نعلقه داخل قلوبنا، فإذا انكسر القلب، تساقطت البلاد».