رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

قطوف

وعد

بوابة الوفد الإلكترونية

من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.

"سمية عبدالمنعم"

كما تنبئ السماء برسائلها في لحظات الشفق عبر ألوانها لا تعرف كيف مزجتها في لحظة إبداع، كذلك كانت تلك اللحظات رسائل متمازجة بين الحلم والواقع، بين اليأس والأمل، بين بكاء الفرح وبكاء الرعب، حملت المولود بفرح، الزغاريد تحاوطني، أنظر إليه ودموعي تمتزج مع غدق المطر وكأن ينابيع انفتحت لتملئ جوف الأرض العطشى وتلجم هيجانها ...وهاهو نبض الحياة يقهر خلجات الموت التي تقارعنا منذ فجر هذا اليوم..
وصلت سيارة الإسعاف لتنقل المرأة إلى أحد المشافي، صعدت أنا والطفل الصغير إلى جانبها ونسيم أمومة غضة يعبر بي، مسحت شعرها بيدي وأطبقت شفتي على جبينها المبلل بعرق الألم وحبات المطر.
تأملت عينيها المنهكتين وهي تمنحني أن أختار لابنها ما أحبه من الأسماء.. طبطبت على كتفها وقلت لها ببعض المداعبة، سأسميه وعد كوعدي لك، أما أنت فحذاري أن تضعفي . مازال أمامك مشوار طويل لتملئي جرار الزمان من حلاوة روحك وأمومتك، ابتسمت وراحت في غفوة.
انطلقت السيارة وأنا أراقب حال المدينة، الناس منتشرون في الشوارع بلا هداية.
يعاينون الدمار وما حلّ في بيوتهم بعد أن عادوا من سكرات الخوف والموت إلى صحوة الواقع، بنايات فقدت ذاكرتها وأمست حجارتها أكواما من الحطام  تتجمع حولها طواقم الإنقاذ  لانتشال العالقين بين الأنقاض، أسندت رأسي إلى السيارة، بدأ المشهد يسرق مني بعض فرحي... آه من تلك الحظات الغابرة.. هزة وتنقلب الحياة بلا رحمة.
الآن أستعيد تلك المشاهد التي عبرت بها لحظات عاصفة.. خرجت من بيتي بحالة هيستيرية عند انتهاء أول هزة، حملت جهازي المحمول وما طالته يدي من أوراق وأدوية تحتاجها أمي، سمعت صراخا يضج في المكان ببنما أهل البناية يتراكضون على الدرج وكلٌّ منهم يحث الآخر على الاستعجال وحين فقد يوسف فردة حذائه على الدرج سحبوه من يده كي لا يلتفت إلى الخلف.
حالما وصلنا إلى الشارع، عاد صوت الأرض يزمجر ثانية لينبئ عن قدوم هزة ثانية.
ابتعدت عنها، تسمرت نظراتي على البناية التي كانت تلوح مع تماوجات الأرض بينما صوت زئيرها يعلو وكأن الحجر يدخل بين فكي جاروشة ويعلو معه صراخ الناس الذين تجمعوا في الطرف المقابل بابتهالات دامعة موجوعة. أما الأولاد فكانوا قد اختبأوا بين الأهالي وكأنهم يهربون من لحظات الجحيم.
كنت أرتعد بمخاوفي، لكني شعرت بروح قوية تلبسني، وكأن النفس الأخير يصرخ في داخلي : سأكسر شوكتك يا موت.  
بدأ الناس يتداولون الأخبار عن أسماء أشخاص خانتهم الحياة وأسلمتهم للموت مع أول اهتزازاتها، تسلل الحزن إلى القلوب المثقلة فهذه الأسماء جزء من صلتنا بالحياة، تلتها أنباء عن اهتزازات ارتدادية ستأتي دراكا في أوقات متفرقة مما زاد الناس بؤسا فهم لا يعرفون في أي حال سيواجهون الموت، فضّلوا البقاء خارج الأبنية وصارت الشوارع خشبة مسرح كبير ظهروا فيها بملابس نومهم وبعض الأغطية تبدو تعابيرهم عارية إلا من ذهول الصدمة.
كنت في حيرة من أمري ماذا عليَّ أن أفعل، لفتني صوت صراخ مبحوح، التفتُّ لأجد امرأة كانت قد  فقدت زوجها منذ بضعة شهور وهي حامل ووحيدة مع  طفلها الصغير الذي كان يبكي هو الآخر،  كانت قد أسندت جسدها إلى أحد الأعمدة تبدو وكأن الألم يعتصرها، أخذت الطفل منها وأودعته مع والدتي  عند الحرش المقابل  حيث  اجتمع عدد من الأهالي، 
حالما عدت إليها وجدتها ملتفة على نفسها عند حافة الرصيف، في البداية ظننت أنها قد تكون وقعت أو لعل قدمها زلّت من شدة المطر، لكن صوتها  كان ينبئ عن حالة مخاض، بعفوية  بالغة رفعت صوتي عاليا  يا ناس ساعدونا ..هناك امرأة حامل وتحتاج لعناية ..لم يكتمل الصدى حتى  ردت على ندائي  إحدى  صديقاتي التي اختارت أن تبقى بعيدة مع  أبنائها، أنا جاهزة أحتاج فقط لمن يقف مع أبنائي، سارع إليها شاب من الأهالي ملبيّاً حاجتها،
 سلّمته الأولاد دون تردد واتجهت نحونا، قالت لي وهي تقترب منّي لا تخافي لقد درست التمريض أثناء سفري وسأعمل جهدي.
طلبت مني أن نأخذها إلى مكان آمن قدر الإمكان.. وبعد فحص بسيط تأكدنا أنها تستعد للولادة.. أخذنا بعض الحرامات الصوفية من النسوة حولنا ومع صرختها التالية اهتزت الأرض للمرة الثالثة وعلا معها صوت الناس بالصراخ يا الله.
لم تطل اللحظات حتى هدأت الأرض وعادت للاستقرار، كان علينا أن نستغل الوقت المتاح ونجلب ما قد يلزم لإتمام المهمة...والآن بتنا على استعداد لأي مساعدة.
بدأت الفترات بين الصرخة والأخرى تقصر وكل واحدة من النسوة تقدم لها نصيحة من خبرتها وأنا أمسك بيديها لتقويتها و هي تحاكينا بدموعها وصوت أنينها، إلى أن كانت الصرخة الأعلى مترافقة مع صرخة مولود قادم إلى الحياة من بين عويل الألم الصادح في فضاء المنطقة...ارتفع صوت تهليل النساء بالفرح ،لينتشل الأطفال من خوفهم فسارعوا إلينا ليكتمل هذا المشهد العجائبي. 
أخذت الطفل بعد أن قطعت له الحبل السري وتركتها تكمل ما عليها فعله ...في تلك اللحظة كانت سيارة اسعاف تعبر الشارع فطلبت من الأهالي الاستغاثة بهم.
لففت الطفل بما توفر لدينا ، بحنو وفرحةانتشلني من خوفىالموت وألم المخاض وعبرٰ بي إلى الحياة.
ها هو الطفل بين يديّ..
كانت السيارة قد وصلت إلى المشفى حين سمعت صوت أحدهم يطلب الابتعاد عن ممرات الدخول، أنزلوها بعناية وعبروا بين المصابين وأصوات المتعبين ،بدأت ألمس الأعداد الهائلة من المنكوبين بهذه الكارثة وكم يحتاج الناس في مثل هذه الأوقات لمن يرفع عنهم أثقالهم ويعيد لهم الدفء والأمان .
هل اختارني الوعد لأن أكون جسرا  ...الآن أشعر  بالتحرر من قيد الزمان والمكان، وكأن هذه اللحظات أعادت تشكيلي و زودتني بما كان ينقصني لأتذوق تلك المتعة التي كانت أمي تحدثني عنها كثيراً ولم أدرك كنهها إلا الآن  "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ"   ..ابتسمت بنشوة  الانتصار على ضعفاتي وبعض الأنا الجاسمة في أعماقي، وكأن هذا الوقت الذي عبرته أعاد صهري  وجبلني  بنكهة الواقع  لأضع نفسي  أمام وعدين... ولادة وعد الذي خرج إلى الحياة وكأنه يخرج من جوف الأرض، ووعدي لنفسي المولودة من وقع الأحداث بحلة جديدة .. وكأنه نور انبثق في برية ذاتي،  تعلمت كيف ألتقط أنفاسي وأهزم المحن ...في عمق  الألم وأحيلها حياة.