رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

كبسولة فلسفية

في عالمٍ تتناسل فيه ألسنة النار من رحم الحروب، وتعلو أصوات المدافع على أنين الإنسان، يبدو الشرّ وكأنه اللغة الوحيدة التي يفهمها البشر. من الشرق المصلوب بين فلسطين التي تنزف تحت وطأة الاحتلال، لولا مساعي مصر في قمة شرم الشيخ لإحياء ما تبقّى من أنفاس السلام، إلى الغرب الممزق بين روسيا وأوكرانيا، تتشابه الوجوه وتختلف الرايات، ويبقى السؤال واحدًا: كيف تحوّل العقل، وهو أرقى ما منح الله الإنسان، إلى أداةٍ للفناء بدل أن يكون وسيلةً للنجاة؟
في خضمّ هذا الجنون البشري، ينهض سؤالٌ قديم قِدم الخليقة: ما أصل الشرّ؟ أهو طارئ على الإنسان أم كامِن فيه منذ النشأة الأولى؟ في القرآن الكريم، لا يُقدَّم الشرّ كقوةٍ عمياء تعبث بالوجود، بل كوجهٍ آخر للابتلاء الإلهي، يُمحِّص به اللهُ القلوب ويكشف به جوهر الإنسان حين يُجرَّد من النعم والأمان. فهو امتحانٌ للروح لا عبثٌ بالقدر. أمّا في الفلسفة، فإن الشرّ يتحوّل إلى معضلةٍ فكرية تُقوّض يقين الإيمان: كيف لإلهٍ كامل القدرة والرحمة أن يسمح بكل هذا الكمّ من الألم؟ وبين إيمانٍ يُسلّم بما لا يُدرك، وعقلٍ يُجادل بما لا يُفسَّر، يقف الإنسان على الحافة، متأرجحًا بين النور والظلال، باحثًا عن معنى العدالة وسط فوضى الوجود.
منذ أن رفع الإنسان رأسه نحو السماء، وهو يطرح السؤال ذاته: أين الله من الشرّ؟ ليس كاتهامٍ بل كنداءٍ خفيّ من قلبٍ مثقلٍ بالألم. فلو كان الله عادلًا، فلماذا تُترك المآسي لتتكرر بهذا السخاء؟ وإن كان الإنسان حرًّا، فلماذا دُفعت حريته إلى هذا الحدّ من الكلفة؟ يرى بعض اللاهوتيين أن الشرّ هو الثمن الذي ندفعه لقاء حرية الإرادة؛ فالله أراد كائناتٍ قادرة على الحبّ والاختيار، لا آلاتٍ خاضعةً بلا وعي. لكنّ هذا التبرير ينهار أمام صورة طفلٍ يُسحق تحت الأنقاض أو أمٍّ تفقد أبناءها في لحظةٍ واحدة. ما ذنب الأبرياء في مأساةٍ لم يختاروها؟
أما الفلاسفة الذين يرون في الألم وسيلةً للتهذيب، فيقولون إن المعاناة تصنع الضمير وتوقظ الإنسانية. لكنّ السؤال يبقى: هل يحتاج الإله إلى دموع الأبرياء ليُعلّم البشر الرحمة؟ أليس من الممكن أن يتعلّم العالم من النور لا من النار؟ كذلك من يزعم أن الشرّ جزءٌ من نظام الطبيعة الذي أوجده الله، ينسى أن الإله القادر على الخلق، قادرٌ أيضًا على جعل قوانينه أكثر رحمةً وعدلًا.
وفي المقابل، يقف من يُسمّون أنفسهم "اللاهوتيين المتواضعين"، قائلين إن عقول البشر أضيق من أن تدرك حكمة الله في السماح بالشرّ. لكنّ هذا القول، وإن بدت فيه خشية، يفتح بابًا خطيرًا؛ إذ يمكن أن يُستخدم لتبرير كل ظلمٍ وكل مأساة. فأيّ إيمانٍ هذا الذي يطلب من الإنسان أن يصمت أمام الألم؟
الحقيقة أن المشكلة ليست في وجود الشرّ، بل في المعنى الذي نمنحه له. فحين نُبرّر الألم بأنه طريقٌ إلى الخير، نحيل المأساة إلى فكرةٍ باردة وننزع عن الضمير دفء إنسانيته. ربما يكون الجواب فينا نحن، لا في السماء. فالإله لا يصمت عن الشرّ، بل يترك لنا مسؤوليّة مقاومته. إن وجود الشرّ لا ينفي وجود الله، بل يختبر حضورنا نحن في وجه القسوة، وقدرتنا على أن نكون رحماء في عالمٍ يتعطّش إلى الرحمة.
فالإنسان، في النهاية، هو الكائن الذي يسأل عن العدل وهو يعجز عن تحقيقه، من يبكي وهو يخلق الفنّ، ويحارب وهو يحلم بالسلام. وربما في هذا التناقض تكمن عظمته: أنه، رغم كل الشرّ الذي يسكن العالم، ما زال يؤمن بالنور.
[email protected]