لم يكن مولد السيد أحمد البدوي هذا العام مجرد مناسبة دينية عابرة، بل بدا كأنه عرض رمزي للهوية الدينية الرسمية في مصر.
منذ الأيام الأولى للاحتفال، ظهرت الدولة بكل رموزها الدينية في طنطا:
في الصدارة الشيخ علي جمعة، الذي ينتمي إلى الطريقة الأحمدية ذاتها التي ينتسب إليها السيد البدوي يهتف في وسط الحشود الله الله يا بدوي جاب اليسرى، أي أن البدوي قد جاء بالأسرى. المصريين لدي الفرنجة
، وإلى جواره وزير الأوقاف الدكتور أسامة الأزهري، أحد أبرز دعاة الخطاب الصوفي الوسطي.
الرسالة كانت واضحة: التصوف هو عنوان الإسلام المصري المعتدل، والبدوي — من جديد — يصبح رمزًا لوحدة الروح والدولة.
لكن خلف هذه الأضواء والموالد، تختبئ حكاية طويلة عن العلاقة المركبة بين السلطة والتصوف، بدأت منذ سبعة قرون، حين أدرك السلطان الظاهر بيبرس في حروبه مع الصليبين والمغول أن بركة الولي يمكن أن تكون أقوى من شرعية السيف فهي كانت و الوقود الروحي للنصر علي الصليبين والمغول فهو لاينسي هتاف الجماهير المصرية في اللحظات الحرجة قبل معركة عين جالوت لا اله الا الله المماليك جنود الله .
فهم بيبرس ان التصوف يمكن أن يمنحه شرعية من السماء وشرعية شعبية تعطي له الحماية
فحين اعتلى الظاهر بيبرس عرش المماليك في القرن الثالث عشر، كان بحاجة إلى سند روحي وشعبي يُكمل شرعية القوة التي جاء بها. بعد قتله للسلطان المنتصر قطز .
فالتفت إلى الطرق الصوفية التي كانت تملك نفوذًا واسعًا في الشارع المصري منذ زمن الأيوبين الذين استخدموا الصوفية كسلاح للقضاء علي المذهب الشيعي الفاطمي، فبدأ بيبرس في توظيفها لبناء شرعية سياسية جديدة. له
ومن حسن حظه أنه عاصر قمة الانتشار والمد الوجداني للصوفية بمصر فالقطب الثالث السيد أحمد البدوي والقطب الرابع
الشيخ الدسوقي كانوا من اهل الخطوة الذين وفروا له
دعم شعبي هائلا .
فقرب إليه الشيخ إبراهيم الدسوقي الذي
سطع نجمه فى العلوم والمعارف وانتشرت طريقته حتى وصل صيته إلى كل أرجاء المحروسة أصدر قراراً بتعيينه شيخاً للإسلام، كما قرر السلطان بيبرس بناء زاوية يلتقى فيها الشيخ بمريديه يعلمهم ويفقههم فى أصول دينهم، وهى مكان مسجده الحالي، وظل الدسوقى يشغل منصب شيخ الإسلام حتى توفى السلطان بيبرس، وفي الوقت نفسه ، اعتقد بيبرس في بركة السيد أحمد البدوي، وكان ينزل لزيارته ويكرمه فصارت الطريقة البدوية من أكثر الطرق نفوذًا في مصر في عهده وما بعده.
وتحولت طنطا إلى مركز روحي رسمي:
وبفضل دعمه، أصبحت مدينة طنطا مركزًا من مراكز التصوف السني الشعبي، يتوافد إليها الناس للزيارة والدعاء.
لقد أعطى له بسخاء وأضفى عليه القداسة
فرد أتباع السيد البدوي من المتصوفين هذا الإحسان بتخليد بيبرس في الوجدان المصري الشعبي عبر ملحمة السيرة الشعبية للظاهر بيبرس وسعوا فيها إلى إضفاء نسب عربي شريف على بيبرس، وربطوا اسمه بالصالحين والأولياء، لتكتمل صورة السلطان “المختار”.
ومن خلال تلك السيرة الشعبية ، التي مزجت بين البطولة السياسية والقداسة الصوفية، ظل الظاهر بيبرس حاضر في حياة المصريين الي الان.
وعلي الجانب الآخر اهتمت المصادر الصوفية بذكر القصص التي تثبت هيمنتهم الروحية على السلاطين، إذ ورد في طبقات الشعراني أن بيبرس كان يعتقد في السيد البدوي اعتقادًا عظيمًا، وأنه خرج بنفسه وعسكره لاستقباله حين قدم من العراق.
وأن الشيخ خضر العدوي تنبأ لبيبرس بالسلطنة حين رآه أول مرة بدمشق قائلاً: “هذا يصير سلطانًا”.
وفي المقابل، روت السير أن بيبرس حين فرض ضرائب جديدة لاستعداد حملته ضد المغول، استفتى الإمام النووي فرفض أن يمنحه الفتوى، وطالبه بأخذ كماليات الأمراء قبل أموال العامة.
غضب بيبرس، لكن المنام الذي رآه بعد ذلك — حيث بشره الولي نجم الدين أيوب بدنو أجله — أيقظ فيه خوف الله، فأمر ببناء مدفنه بدمشق، ليدفن فيه بعد أيام قليلة.
وبعد وفاة بيبرس حمل القطب الرابع السيد ابراهيم الدسوقي راية المعارضة ضد الحكم المملوكي، وجاهر برفضه لسياسات السلطان المملوكي الأشرف خليل، الأمر الذي عرضه لنقمة البلاط المملوكي، وللكثير من المؤامرات التي دبّرها له الوزراء والأمراء، والتي انتهت جميعاً بالفشل، واضطر الأشرف خليل –في نهاية المطاف- أن يأتي بنفسه إلى دسوق ليتوب بين يدي أبي العينين –الدسوقي- ويمثل بين يديه، طالباً منه الصفح والمغفرة، فبشره الشيخ بالنصر على الصليبيين فى عكا. ويقول المتصوفة إن بعد رجوع السلطان من عكا منتصراً، أصبح يكاتب الدسوقى، ويبدأ رسالاته بعبارة «مملوكك".
كل هذه الروايات — مهما اختلفت في صدقها — تكشف أن الحاكم أدرك مبكرًا سرّ القوة الصوفية، فاستثمرها في تثبيت أركان ملكه، وفي الوقت ذاته، جعلها شريكًا رمزيًا في الحكم، ليعطي الإسلام في مصر فقه التدين الشعبي العاطفي الذي لا يزال صوته حاضرًا حتى اليوم
فحين أعاد بيبرس فتح الجامع الأزهر بعد إغلاقه لسنوات، طويلة بأمر من السلطان صلاح الدين الأيوبي.
جعل التدريس فيه على المذهب السني، لكنه منح التصوف مساحة داخلية مؤثرة، حيث تحولت الزوايا الصوفية إلى مؤسسات تعليمية ملحقة بالأزهر، تجمع بين العلم والذكر.
ومنذ ذلك الحين، بقي الطابع الصوفي حاضرًا في روح الأزهر، متجسدًا في مشايخ كبار جمعوا بين الفقه والوجدان، مثل الشيخ إسماعيل صادق العدوي (إمام الجامع الأزهر الذي تأثر به الرئيس عبد الفتاح السيسي)، وكان قطبًا من أقطاب الصوفية في مصر، على «الطريقة الخلوتية»، عن والده الشيخ صادق العدوى، وعن شيخه عبداللطيف القتورى.
ومما يروى عنه أنه كان شديد الكشف الربانى، وموضع احترام وتقدير لدى كثير من زعماء الدول الإسلامية والعربية، وأنه كان يرج المنبر والقلوب من شدة خطبه وقتها،والشيخ محمد متولي الشعراوي، وزير الأوقاف الأسبق أحد اهم ساكني قلوب المصريين والسلطان المتوج في وجدانهم والشيخ عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر الأشهر بين المتصوفين.
والشيخ أحمد الطيب: شيخ الأزهر الحالي فهو ايضا ينتمي إلى الطريقة الصوفية (الخلوتية) ويُعتبر امتدادًا للخط الصوفي داخل المؤسسة الأزهرية.
كل هؤلاء حملوا في خطبهم ونصوصهم أثر المدرسة الصوفية التي زرعها بيبرس قبل قرون في الأزهر . بما يؤكد ان تاريخه مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالصوفية ..
في القرن الثامن عشر، أعاد علي بك الكبير إنتاج معادلة بيبرس بطريقة جديدة.
كان يطمح إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية، فاحتاج إلى غطاء ديني شعبي،فمدّ يده إلى مسجد السيد البدوي بطنطا، وقدّم له الأوقاف والهدايا، وأعاد بناء المسجد والقبة ليكسب تأييد الجماهير التي ترى في البدوي “الوليّ الحامي لمصر”.بهذا الدعم، استطاع علي بك أن يثبت حكمه والاستعداد لحربه مع الدولة العثمانية لإعلان استقلال مصر فعلاقة علي بك الكبير بمسجد السيد البدوي كانت دينية في المظهر، سياسية في الجوهر.
وهكذا، أصبح التصوف وسيطًا ذهبيًا بين السلطة والرعية، يمنح البركة لمن يحكم، ويكسبه شرعيةً تتجاوز فقه السياسة.
ولم يختلف الأمر في العصر الحديث، فظل اطلال المماليك الروحية هي السائدة.
فوجد أنور السادات في التصوف عنصر المعادلة الروحية لنظام حكمه .
فالرئيس الراحل كان دائم الجلوس في مقام البدوي، والبكاء حول ضريحه يشكي اشجانه بعد فصله من الجيش في عهد الملك فاروق، وفي فجر أحد الأيام علا صوت بكائه متضرعًا وصارخًا من أعماق قلبه: يا الله يا مغيث، فيدخل عليه الشيخ أحمد حجاب أستاذ العلوم الشرعية بالمعهد الأحمدي بطنطا وإمام وخطيب المسجد، وفور أن رأى السادات ولم يكن معروفًا حينها
قال له حجاب: "أهلًا بك يا خديوي مصر.. سوف تكون رئيس مصر".
فرد عليه السادات: "يا مولانا أنا مفصول من الجيش، وأريد العودة لعملي"، فرد عليه أحمد حجاب: "سوف تكون رئيس مصر"، ومضت السنوات وتولى السادات رئاسة مصر، ولم ينقطع عن زيارة أحمد حجاب في خلوته بالمسجد البدوي.
فبشر الرئيس السادات بالانتصار على إسرائيل،
فقبل أن يتخذ السادات قرار الحرب توجه إلى الشيخ حجاب، فلما رآه ابتسم في وجهه وأخذه إلى غرفة مقتنيات السيد البدوي وألبسه جبته وسبحته، وقال له: السيد البدوي يسلم عليك، ويبشرك بالنصر، لكن عليك أن تجعل شعار الجيش "الله أكبر".
وطلب منه أن يتعهد له إذا ما انتصر أن يدفن في المسجد البدوي بجوار مقام السيد أحمد البدوي، وهو ما نفذه السادات، عام 1978، و دفن الشيخ في إحدى حجرات المسجد .
وقد اهتم السادات بعمارة المسجد البدوي وتجديده.
فحين تحقق النصر في أكتوبر، عاد إلى طنطا شاكرًا، وأعاد ترميم المسجد، وجعل المولد مناسبة رسمية كبرى.
كان السادات يدرك أن بركة الأولياء تصنع له صورة الزعيم المؤمن في وجدان الناس، كما صنع بيبرس من قبل صورة السلطان المبارك.
ليس غريبًا أن تتكرر في التاريخ المصري مشاهد “البشارة الصوفية بالحكم”. فقد كان الظاهر بيبرس أول من صنع لتلك البشارة قداسة سياسية حين رُوي أنه بُشّر من أحد أولياء الله الصالحين الشيخ خضر العدوي
بأنه سيتولى الملك، . وبعد قرون، أعاد أنور السادات إنتاج المشهد ذاته حين بشره الشيخ أحمد حجاب بحكم مصر.
وفي الوقت الراهن، جاء الرئيس عبد الفتاح السيسي ليكمل هذا الخيط الصوفي الممتد، حين صرّح بأنه رأى في المنام الرئيس الراحل السادات، وتنبأ خلال الحوار بأنه سيصبح رئيسًا لمصر، كما رأى نفسه يحمل سيفًا مكتوبًا عليه "لا إله إلا الله" باللون الأحمر.
اللون الأحمر هنا ليس تفصيلًا عابرًا؛ فهو في الخيال الصوفي لون السيد أحمد البدوي ورايته الشهيرة التي ترمز إلى القوة الروحية، ليعود التصوف اليوم ليشكل ركنًا أساسيًا في هوية الدولة الدينية الوسطية.
فالرئيس القادم من عائلة تنتمي إلى الطريقة الأحمدية، والمتأثر بالشيخ إسماعيل صادق العدوي، هو الاخر تلقي البشارة التي تعكس تغليف السياسة بروحانية التصوف. فلم يكن التصوف في مصر مجرد ممارسات روحية، بل قوة اجتماعية هائلة تمتلك نفوذًا بين العامة والتجار والفلاحين.
لذلك سعى الحكام المتعاقبون — من عهد بيبرس وحتى اليوم — إلى احتوائها واستخدامها كسلاح فعال في دفع الدولة الي الأمام فالصوفي بالنسبة للناس رمز للبركة، ومن يتحالف مع البركة يكتسب رضا الناس وطمأنينتهم.
بما يمرر استخدام التصوف كخطاب سياسي ناعم في مواجهة التشدد الديني.
فالبث المكثف لمظاهر مولد السيد أحمد البدوي هذا العام على القنوات الإعلامية و وسائل التواصل الاجتماعي، ورفع رايات الطرق الصوفية في طنطا بحضور رسمي من الدولة يعيد تقديم التصوف بوصفه الوجه الآمن للإسلام المصري:
دين الهدوء والسكينة، لا دين التكفير والصدام. والقتل والتفجير، فهذا الاحتضان الرسمي للتصوف، لا يمكن فصله عن سياق الصراع الديني مع التيارات المتشددة التكفرية. فالدولة لم تقترب من الطرق الصوفية لمجرد طابعها الروحي الهادئ، بل لأنها تمثل نقيضًا أيديولوجيًا لخصومها من التيار السلفي الوهابي والتيارات التكفيرية، وكما نجح صلاح الدين في استخدام التصوف كسلاح في القضاء علي المد الشيعي بمصر
تقوم الدولة الآن باستخدامه كقوة ناعمة تبين سماحة الإسلام وقدرته علي احتواء الآخر والتعايش معها و مواجهة الفكر المتطرف الذي أضعف بلاد المسلمين ومزقها و جعلها فريسة سهلة لاعداء الأمة كما حدث في بعض الدول العربية خلال السنوات القلية الماضية ..
فرسالة الادارة المصرية عبر الاحتفاء بمولد السيد البدوي
لا تدافع عن طقس شعبي فحسب، بل تؤكد على إسلام مصريٍّ شعبيٍّ موروث في مواجهة الأيديولوجيات الوافدة التي تهدد النسيج الروحي والاجتماعي. هكذا يتحول التصوف إلى خط دفاع أيديولوجي يحمي الدولة من خطر التشدد ويؤمّن لها قاعدة جماهيرية
ولكن إذا كان صحيح أن للمولد قيمة روحية كبيرة،
فالمبالغة في الاحتفال — خاصة بالمظاهر المادية
التي تتعلق بالسلوكيات التي تخرج عن الإطار الروحاني والآداب العامة داخل محيط الاحتفال: (مثل سلوكيات بعض "المجاذيب أمام الضريح
والرقص الصوفي غير المنضبط)، مما يثير السخرية أو الجدل حول مدى انضباط المولد.
قد تُفقده معناه الديني الأصلي، وتحوّله إلى مهرجان استعراضي .يخرجه عن الجوهر الروحاني للمنهج الصوفي..
فإذا كانت الدولة عازمة علي المضي قدما في هذا الاتجاه واعتبار التصوف ملاذًا رمزيًا لتأكيد هويتها الدينية الوسطية، فمن المفترض أن يكون جوهر الاحتفال روحانيًا قائمًا على الذكر والإنشاد وتعريف العامة بجوهر وحقيقه الصوفية ودورها التاريخي في المعارك الفكرية قديما ضد التشيع الفاطمي وحديثا ضد التيارات التكفرية المتشددة.
ودورها المعنوي الهام في المعارك العسكرية
الحاسمة التي خاضها الجيش المصري في حروب المصير ضد الصليبين والمغول في العصور الوسطي وحديثا ضد إسرائيل .
حينئذ فقط، يصبح مولد البدوي ليس ذكرى لوليّ راحل، بل شهادة على أن روح هذا البلد لا تموت، وأن الله ما زال يبعث فيها أولياءها كلما اشتدت الظلمة.
فالتصوف قوة ناعمة من قلب التاريخ، تحفظ لمصر توازنها بين الدين والدولة، وبين العقل والروح.