«الفردة» لكرستينا ملاك.. رمزية الصراع على الحق في محل أحذية صغير

تطرح المخرجة كرستينا ملاك في فيلمها القصير «الفردة» وهو مشروع تخرجها من مدرسة الجيزويت الثقافى لعام 2024 -2025 ، تأليف حسام رستم، رؤية فنية جريئة تعتمد على البساطة في الشكل والعمق في المعنى، حيث يقدم حكاية تبدو في ظاهرها واقعية عادية، لكنها تنطوي على رموز فلسفية واجتماعية حول الظلم، واللامبالاة، وتبدّل القيم الإنسانية في المجتمع المعاصر.
تدور الأحداث في مكان واحد محدود: محل صغير لتصليح الأحذية. يدخل أحد الزبائن ممسكًا بفردة حذائه الممزقة ليصلحها عند صاحب المحل. وبعد دقائق من الانتظار، يعيد له العامل الفردة مصححة، لكنه يكتشف أنها لم تعد على مقاسه، فيتهم الرجل صاحب المحل بأنه بدّلها عمدًا.
ورغم تصاعد انفعاله وتوتره، يظل صاحب المحل جالسًا في هدوء عجيب، ثابت الملامح والحركة، يتحدث بثقة وهدوء كأن الأمر لا يعنيه، في دلالة رمزية على اللامبالاة والصمت أمام الظلم.
وبينما يحتدم الموقف، يدخل زبون آخر حافي القدمين، يبدو كأنه قادم من الشارع أو من عالم موازٍ، يطلب من صاحب المحل حذاءً جديدًا.
المفاجأة تحدث حين يعطيه الرجل الفردة التي رفضها الزبون الأول، لتناسبه تمامًا كأنها خُلقت له.
وهنا يبدأ صراع الوجود والملكية؛ من يملك الحق في ما يظنه ملكًا له؟ من الأحق بما لا يخصه؟ يتحول الحوار إلى مواجهة، والمواجهة إلى عنف، حتى يهاجم الرجل الحافي الزبون الأول، ويسلبه الفردة الثانية بعد أن يطرحه أرضًا وينزف دمًا.
في تلك اللحظة، لا يتدخل صاحب المحل — رغم أنه الشاهد على الظلم — بل يظل صامتًا في مكانه، وكأن صمته صار مشاركة ضمنية في الجريمة.
يخرج الرجل الحافي منتصرًا بالفردتين، في حين يظل صاحب الحذاء الأصلي مهزومًا ونازفًا، في صورة بصرية مؤلمة تلخص واقعًا يسرق فيه الأقوياء حقوق الضعفاء، ويصمت المجتمع عن الفعل.
وفي المشهد الختامي، يمد صاحب المحل يده للمعتدى عليه، في لقطة قريبة تُظهر يده ملطخة بالدم، لتتحول الصورة إلى رمز مزدوج؛ فهي من جهة تحمل معنى الاعتراف بالذنب أو الندم المتأخر، ومن جهة أخرى إشارة إلى بداية جديدة تولد من الألم والخذلان.
من الناحية الفنية، تعتمد كرستينا ملاك على اقتصاد بصري محسوب بعناية:
الكاميرا ثابتة في معظم اللقطات، مما يعزز شعور المتفرج بالعجز أمام الحدث.
الإضاءة خافتة ومحايدة، تكشف عن قسوة المكان وضيقه، وكأننا في زمن متجمد أو محطة انتظار روحية.
كما أن حركة الممثلين محدودة ومدروسة، لتجعل التوتر يتسلل من خلال النظرات والإيماءات أكثر من الحوار.
أما المونتاج فجاء هادئ الإيقاع رغم تصاعد الصراع، ليمنح المتلقي فرصة للتأمل في المعاني الرمزية. وبرز أداء الممثلين الثلاثة في رسم التناقض بين العدوان والصمت، والضعف والتمرد، لتتحول الحكاية الصغيرة إلى مرآة كاشفة للمجتمع.
في النهاية، يترك «الفردة» للمشاهد مساحة واسعة للتفكير:
هل نحن الحافي الذي يبرر لنفسه السرقة؟
أم المظلوم الذي يفقد حقه تحت ضربات الآخرين؟
أم صاحب المحل الصامت الذي يرى كل شيء ولا يتدخل؟
إنه فيلم قصير في مدته، لكنه كبير في دلالاته، يفتح الباب أمام تساؤلات عن المسؤولية الأخلاقية والسكوت عن الظلم، ويؤكد أن الصمت أحيانًا قد يكون أخطر من الفعل نفسه.