لم يعد الذكاء الاصطناعي حبيس معامل البرمجة أو الشركات التكنولوجية الكبرى أو حتى قاعاة الدراسة، بل أصبح لاعبًا رئيسيًا في مساحات الإبداع الإنساني، ومن أبرزها الموسيقى، فمنذ سنوات قليلة، كان من الصعب تخيل أن خوارزميات الحاسوب يمكنها أن تؤلف مقطوعة موسيقية أو محاكاة أسلوب ملحن عالمي، لكن اليوم أصبح ذلك حقيقة ملموسة تثير الانبهار والجدل في آن واحد.
وذلك بعد أن تطوير عدد من البرامج والأدوات القادرة على تحليل ملايين النوتات والأنماط اللحنية، ثم إنتاج مؤلفات جديدة قد تشبه موسيقى موزارت أو بيتهوفن، أو حتى تمزج بين الجاز والكلاسيك في تجربة موسيقية هجينة، بل إن بعض شركات الإنتاج العالمية بدأت تستخدم الذكاء الاصطناعي لتأليف مقاطع موسيقية للإعلانات والألعاب الإلكترونية والأفلام، بهدف تقليل التكلفة وتسريع الإنتاج، أو إجراء التعديلات على النوتات وتحسين جودة الصور، وحذف الضوضاء وغيرها من الأمور التي كانت تستغرق أسابيع إلى جانب المبالغ الضخمة المستحقة من كل فرد يتدخل في عملية صناعة الموسيقى.
أما في عالم الغناء، ظهرت تطبيقات قادرة على "استنساخ" أصوات المطربين، بحيث يمكن لمستمع اليوم أن يسمع أغنية جديدة بصوت أم كلثوم أو عبد الحليم، كما لو كانا ما زالا بيننا، ليس كصوت فقط بل يمكن تجسديه على أحد المسارح كما حدث في مهرجان الرياض، حيث وجدنا أم كلثوم تطربنا عبر تقنية الهولوجرام، هذه التقنيات وغيرها تفتح آفاقًا واسعة لإحياء التراث وتقديمه للأجيال الجديدة.
ولا يقتصر الأمر على الإنتاج فقط، بل يمتد إلى عملية التعلم الموسيقي نفسها؛ إذ توفر أدوات الذكاء الاصطناعي أدوات تعليمية تفاعلية تُعين الطلاب على تعلم العزف والغناء، مع تغذية راجعة فورية تساعدهم على التطور بشكلٍ أسرع، كما باتت هناك تجارب لتطوير "مساعدين افتراضيين" للمؤلفين الموسيقيين، يقترحون جُملًا لحنية أو مقامات بديلة أثناء عملية التأليف.
لكن وسط هذا الإبهار، يظل السؤال الأهم: هل يهدد الذكاء الاصطناعي مكانة المبدع الإنساني؟ الإجابة ليست سهلة؛ فالفن الحقيقي لا يقوم فقط على تركيب النوتات، بل على التجربة الإنسانية العميقة التي تعبر عن الفرح والحزن والحب والفقد، كذلك نجد أن الذكاء الاصطناعي قد يكون قادرًا على "تقليد" هذه المشاعر، لكنه لا يعيشها كما يعيشها الإنسان. لذلك، ربما يكون دوره مكمّلًا لا بديلاً، فهو أداة تساعد الفنان على توسيع خياله، دون أن تنتزع منه جوهر الإبداع.
وفي السياق العربي، تبدو الفرصة كبيرة لتوظيف هذه التكنولوجيا في حفظ التراث الموسيقي وإعادة توزيعه بروح معاصرة، بما يجذب الأجيال الجديدة ويحافظ على الهوية الثقافية، غير أن الأمر يتطلب في الوقت ذاته تشريعات واضحة تحمي حقوق الفنانين، وتشجع الاستخدام المسؤول للتقنيات الجديدة.
في النهاية، يمكن القول بأن دخول الذكاء الاصطناعي إلى عالم الموسيقى ليس نهاية الفن، بل بداية فصل جديد في تاريخه، فصل يجمع بين عبقرية الإنسان وقوة الآلة، ليمنحنا ألوانًا جديدة من الإبداع لم نعرفها من قبل مع الابقاء على الضوابط الأخلاقية حول حقوق الملكية الفكرية وحماية هوية الفنانين.